الحُكم المدني والجيش في قاطرة الانتقال!!
بقلم: مرتضى الغالي
الفترات الانتقالية التي تأتي في أعقاب ثورة شعبية ضد الأنظمة الشمولية العسكرية التي استطال بقاؤها في الحكم، تحتاج إلى رجاحة وحكمة وانضباط عالٍ واعتدال من المؤسسات النظامية والقائمين على أمرها.. حيث أن ما يصدر من قادتها يمكن أن يعين بصورة تلقائية على الانتقال السلمي والسليم ويسهم في تجاوز مخاضاته الصعبة.. كما أن ما يصدر عن هؤلاء القادة العسكريين يمكن أن ينطوي على درجة كبيرة من المخاطر ويقود إلى انفلاتات واضطرابات ونزاعات يمكن أن تتسع لتصل خطورتها إلى حد أن تعصف بسلام الوطن واستقراره وتنتج عنها اشتباكات مسلحة واسعة النطاق.. خاصة إذا كان الوطن محتقناً بمليشيات ومجموعات تحمل السلاح خارج الجيش والقوات النظامية القومية!!
وسيكتب التاريخ السوداني وربما صحائف التاريخ على إطلاقها أن مرحلة الانتقال الحالية وقعت في هذا المحظور؛ وأن الجيش قد أذعن لقبول وجود مليشيات مسلحة ضمن نطاقه، وجعل لها لافتة مختلفة لا تعني سوى أنه ولأول مرة في تاريخ الوطن ينقسم الجيش السوداني إلى جناحين بعد أن وافقت قيادته على قبول ما ليس في قوانينه وانتسابه المهني.. وجعلت تحت مظلة الجيش فصيلاً عسكرياً (له قيادته المستقلة) ولم تكن عناصره من جنود الجيش ولم ينتسبوا للجيش عبر أساليبه المعلومة في التجنيد.. وما كان هناك من ضير إذا تم هذا الإجراء عبر ما هو معلوم من قواعد حاكمة في حالات دمج القوات المسلحة المُعارضة ضمن الجيش الوطني بعد انتصار الثورة على الأنظمة التي كان يناضل الشعب لإزالتها عبر الوسائل السلمية والعسكرية!!
ومن الملاحظ في الساحة السياسية أن قيادات الجيش السوداني لم تسرع إلى تأكيد قومية الجيش، ولم تتعامل بما تمليه قواعد الجيوش الوطنية مع المليشيات المسلحة؛ ومن المعلوم أن نظام الإنقاذ قد قام بكل ما من شأنه سلب الجيش من قوميته وتسييسه وتغيير عقيدته القتالية؛ حيث كان نظام الإنقاذ يسعى لأن يجعل من الجيش قوة عسكرية من أجل حماية نظامه وليس لحماية الوطن.. كما اجتهد نظام الإنقاذ في إضعاف الجيش وإنشاء مليشياته المسلحة الخاصة.. وجعلت من جهاز أمنه الخاص بحزبه قوة ضاربة يملك من الأسلحة ما يضاهي الجيش.. إذ لم تكن الإنقاذ تطمئن للجيش وتتحسّب إلى مواجهته عند الحاجة بمليشياتها وقواتها الأمنية التي تزوّدت بالآليات العسكرية الثقيلة!!
القاعدة تقول إنه يجب تحريم ملكية واستخدام السلاح في الدولة، إلا للجيش والقوات النظامية.. وهذا هو الأمر الذي يجب أن يشغل قادة المؤسسة العسكرية؛ فالجيش ليس من مهامه إدارة الاقتصاد وليس من واجبات قادته الهجوم على الحكومة المدنية وإطلاق التصريحات السياسية.. فمسؤوليتهم هي حماية أمن البلاد وترابها.. وعلاوة على ذلك فإن ظروف الانتقال الحالية في البلاد أفضت إلى أن يكون قائد الجيش هو رئيس مجلس السيادة؛ ولكنه ظل بين حين وآخر يمارس تجاوزاً إثر تجاوز لصلاحيات منصبه كما منصوص عنه في الوثيقة الدستورية.. فهو يتصرف في كثير من الأحيان وكأنه (رئيس جمهورية رئاسية) في حين أنه ليس كذلك.. بل إنه عضو في مجلس سيادة – بشقيه العسكري والمدني – وصلاحيات هذا المجلس (سيادية شرفية) وليست تنفيذية.. وإذا كان الرجل يرأس مجلس السيادة فهي (رئاسة دورية) ستؤول منه غالى عضو مدني آخر في المجلس.. وهذا لا يعطيه حق التدخل في ملفات الاقتصاد أو السياسة الخارجية منفرداً.. فهذه من شؤون الحكومة المدنية..! وإذا رجعنا إلي أصل الحكاية فإن الشعب هو الذي بالحكومة المدنية.. ومعنى ذلك أن هذه التصرفات التي تتم من رئيس مجلس السيادة على غرار ما كان يفعله المخلوع عمر البشير لا تجوز.. وحتى منصب نائب الرئيس في مجلس السيادة الذي اسند لقائد (الدعم السريع) لا وجود له في الوثيقة الدستورية..! التاريخ شاهد وسيكتب عن كل من يعمل على التفريط في وحدة الجيش وقوميته؛ وما يكتبه التاريخ سيظل (قلادة شرف) في صدر صاحبه أو (وصمة عار) على جبينه لا يزيلها كل ما في الدنيا من (حامض الفورميك والكبريتيك).