سياسة التمكين وطبيعة أفعال الفساد والإرهاب
بقلم: محمد بدوي
من حيوية الفترة الإنتقالية أنها فتحت جدلًا قانونيًا بدأ بالوثيقة الدستورية ٢٠١٩، وامتد إلى القرار بالرقم (ط 10-2021) الصادر من المحكمة العليا الدائرة المختصة بنظر الطعون ضد قرار لجنة الاستئنافات بالرقم أعلاه، في الخامس من أكتوبر 2021 في مواجهة قرار لجنة محاربة الفساد وتفكيك نظام الـ٣٠ من يونيو ١٩٨٩ بتاريخ ٢٥ مايو ٢٠٢١ والقاضي بفصل عدد من القضاة بالهيئة القضائية السودانية.
للوصول إلى طبيعة قانون لجنة التفكيك ومصدره يتطلب الأمر النظر إلى السند القانوني في التزامات السودان الدولية والإقليمية والتشريعات الوطنية، وهي إتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد، إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، إتفاقية الرياض لمكافحة الإرهاب 2012 والوثيقة الدستورية 2019 .
تفرض الالتزامات على الدول موائمة تشريعاتها بعد المصادقة على المواثيق الدولية والإقليمية، وهو ما لم تقم به السلطة السابقة لأسباب ارتبطت بعدم رغبتها وبطبيعتها الأيدلوجية “سياسة التمكين”، وواقع ممارستها بالمخالفة للالتزامات، حيث لعبت دور المصدر والراعي والمشارك في ممارسة الفساد والأفعال الإرهابية وإدارة منظماتها، فشكل ذلك نهجاً عكس ممارسة ممنهجة وواسعة، انعكس على استقلالية السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وغياب المسافة الفاصلة بينهم، لذا جاء قانون محاربة الفساد وتفكيك نظام الـ٣٠ من يونيو ١٩٨٩ في الفترة الانتقالية يعبر عن قصد المشرع في الاستناد على إطار قانوني مرتبط بالإلتزامات الدولية والاقليمية والوثيقة الدستورية ٢٠١٩، مما نتج عنه طبيعة خاصة لقانون التفكيك بصلاحيات وسلطات قضائية وعدلية وإدارية لا يمكن قراءتها أو النظر إليها منفردة، لإرتباطها بحالة خاصة متمثلة في نهج التمكين وارتباطه بطبيعة أفعال الفساد والإرهاب، ولمناقشة ذلك لابد من الاستعراض أدناه.
أولاُ: ارتباط أفعال الفساد بنهج التمكين السياسي:
أ- الفساد الوظيفي: لإستناد الممارسة في ظل النظام السابق على اقصاء مبدأ سيادة حكم القانون وتطبيق نهج التمكين السياسي في القواعد المرتبطة بالوظيفة العامة شغلها أو الإعفاء منها، وفقاً لقرار لجنة التفكيك في مايو 2021 أشارت إلى فصل عدد من القضاة نتيجة ممارسات شملت الحصول على الوظيفة نتيجة للموالاة السياسية، والجمع بينها ووظائف أخرى متعارضة داخل مؤسسات الدولة، والتنظيم وممارسة أنشطة عسكرية لصالح التنظيم في صورة تتعارض مع طبيعة الوظيفة، الطبيعب والمتوقع هو إجراء تحقيق حول الأمر ومعرفة الآثار التي ترتبت على ذلك؟ لكن لم يتم الأمر رغم المطالبة التي دفعت بها بعض الجهات الحقوقية، وهناك نماذج كشفت بجلاء الحالة مثل شغل عدة وظائف كمدير مكاتب رئيس الجمهورية ورتبة الفريق بجهاز الأمن الوطني والمخابرت وصفة السفير بوزارة الخارجية.
ب- الفساد المؤسسي: في أفعال إخضاع مؤسسات الدولة لنفوذ القرار السياسي الخاص بالتنظيم ليصبح شرط المولاة السياسية أو النفوذ المرتبط بمركز القرار هو شرط الإلتحاق بالوظيفة، قد تخضع لشروط شكلية في المنافسة ولا يعتد بها كمعيار لغير أعضاء التنظيم أو المرتبطين بالنفوذ السياسي، أثر ذلك انعكس في استقلالية ومهنية مؤسسات الدولة، الربكة التي ظت تلازم محاكمة متهمي إنقلاب 30 يونيو 1989 كملخص للحال الذي وصلت بعض المؤسسات جراء الفساد المؤسسي، فرغم التسليم بنزاهة القضاة الذين مروا على الحالة لكن تظل مسألة الرغبة والقدرة مطلوبات يجب توافرها إلى جانب بيئة العمل في المؤسسات.
ج- الفساد المالي والإداري: الإعتراف باستشراء الفساد من قبل النظام السابق نفسه حيث شهد العام 2018 تكوين وحدة لمكافحة الفساد المالي تحت مظلة جهاز الأمن الوطني والمخابرات والترويج له لملاحقة أعضاء التنظيم الحاكم، أو ما عرف إعلامياً بالقطط السمان، وفي حالة تكشف الحد الذي بلغه الفساد، في إشارة لفشل المؤسسات الأخرى المنوط بها التفويض من القيام بذلك، وأن الحالة مرتبطة بنتاج الفساد وسياسة التمكين، فشلت الوحدة رغم خطل تأسيسها القانوني الذي تم بموجبه إحالة صلاحيات قانونية لجهاز الأمن خارج إطار قانونها، فشلت الحالة نتيجة لاتساع نطاق الفساد وإرتباطه بالتنظيم كمحور.
ثانياً: بنية التطرف والإرهاب وسياسة التمكين السياسي.
بالرغم من وجود قانون لمكافحة الإرهاب منذ ٢٠٠١ الا أن تطبيقه ظل يستند على لائحة قواعد وإجراءات معيبة صدرت بموجب القرار٨٢” لسنة ٢٠٠٨ حيث جاءت مخالفة للدستور الانتقالي ٢٠٠٥ وقانون الاجراءات الجنائية السوداني للعام ١٩٩١، حيث كان الهدف منها سياسي هو محاكمة أعضاء الحركات المسلحة عقب هجوم حركة العدل والمساواة على العاصمة في ٢٠٠٨، استمر تطبيقه في حالات خارج نطاق اختصاصة بشكل معيب نتيجة للرغبة السياسية للسلطة، في استهداف القادة السياسيين وقادة العمل المدني، وتجدر الإشارة إلى مثال لذلك محاكمة الراحلين الدكتور أمين مكي مدني والأستاذ فاروف أبوعيسي في ٢٠١٤، في مفارقة أن الدكتور أمين مكي هو أحد المحاميين الذين تصدوا بالطعن للائحة التي صدرت في ٢٠٠٨، لذا يمكن القول إنه يصطدم بتطبيق العدالة في ظل وجود اللائحة المعيبة وهو ما يسند ولاية قانون التفكيك لنظام الـ٣٠ من يونيو ١٩٨٩، حيث أن السجل الداخلي والخارجي لممارسات النظام السابق يعزز من الارتباط بين نظام الـ٣٠ من يونيو ١٩٨٩ والأفعال والمنظمات الإرهابية، وفقاً للسجل المرتبط بها على النحو أدناه:
داخلياً: جاء تنظيم الأمن الشعبي مشكلاً للتنظيم الأمنب الخاص بنظام الـ٣٠ من يونيو ١٩٨٩، رغم وجود جهاز الأمن والمخابرات تحت سيطرة التنظيم أيضاً، طبيعة نشاطه ارتبطت بالأفعال الإرهابية، وشمل نطاقها الجغرافب الداخل والخارج أي مهدد للأمن والسلم في كلا النطاقين، هنا لابد من الإشارة في ذلك إلى تهديد النائب الأول لرئيس الجمهورية والأمين العام للحركة الإسلامية الأسبق علي عثمان محمد طه في يناير ٢٠١٩ أن للنظام السياسي (كتائب ظل تعلمونها جيداً) بما عبر أنه موجه للشارع السوداني وأعضاء التنظيم الحاكم السابق ممن يفكرون في مساندة الاحتجاجات السليمة آنذاك، وما شهده الواقع لاحقاً من الانتهاكات على حرية التجمع والتنظيم وممارسة حرية التعبير.
خارجياً: تكفي الإشارة إلى محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في 26 يوليو 1995 بأديس أبابا الأثيوبية حيث شارك ٤ من عناصر الأمن الشعبي الى جانب ٩ من المصريين في المحاولة، تمت تصفية العناصر السودانية لاحقاً في ظروف غامضة عقب رفض السودان قرار مجلس الأمن الدولي بتسليم المتورطين، مما دفع مجلس الأمن الدولى إلى إصدارقرار اَخر “المقاطعة الدبلوماسية على السودان” في ٢٧ أبريل ١٩٩٦ بموجب القرار 1044 -1996م، في ٢٠١٧ تم تأجيل رفع العقوبات الإقتصادية من قبل الإدارة الأمريكية عقب إضافة عدد من الشروط للوفاء بها من قبل السودان، منها حل الأمن الشعبي، لتعلن الخرطوم في ٣٠ مارس ٢٠١٧ عن حل الأمن الشعبي، لكن لم يكن الأمر سوى مناورة.
كما أشرت الى أن نهج سياسة التمكين فالمرتبط نظام الـ٣٠ من يونيو ١٩٨٩ ظل يشكل نمط الخاص في أفعال الفساد والإرهاب الأمر الذي يسند هدف قانون التفكيك الى تهيئة اصلاح مؤسسات الدولة خلال الفترة الإنتقالية للإرتباط بالحكم الراشد وصيانة الأمن والسلم داخليا وخارجيا وهذا الشمول لا مجال معه للاستثناء، استناداً على الطبيعة الخاصة لقانون التفكيك ٢٠١٩ تعديل ٢٠٢٠ انعكس في النص على طرق الاستئناف أمام دائرة تم تشكيلها، مع وجوب الالتزام بالنص الصريح، وعدم الخلط في التفسير بين الوجود او التشكيل والإنعقاد لإختلاف الاثر المترتب على كليهما، الطعن في قرارات لجنة الاستئنافات جاء أيضاً بنص صريح في المادة 8/2 ” يجوز الطعن في القرارات الصادرة من لجنة الاستئنافات خلال اسبوعين من صدور القرار أمام دائرة يشكلها رئيس القضاء ويكون حكمها نهائياً” بما يقصى إعمال قانون تفسير القوانين ١٩٧٤ لتكييف طبيعة قرارات اللجنة مع وجود النص الصريح، حيث يعيد ذلك الأذهان إلى المقاربة بالخطل الذي حدث في ١٩٨٥ عندما تم الاستناد على قانون أصول الاحكام لمحاكمة الأستاذ محمود محمد طه زعيم الجمهوريين، تحت تهمة الردة التي لم يرد نص قانوني بتجريمها آنذاك في ظل القوانين السارية، كلا الحالتين التفسير مع وضوح النص الصريح والتفسير مع غياب النص.