الجمعة, يوليو 26, 2024
تقاريرسياسة

التعثر الديمقراطي في السودان.. كتاب جديد للبروفيسور عطا البطحاني (5)

الخرطوم: حسين سعد

تشخص الحلقة الخامسة من استعراض كتاب د. عطا البطحاني، تجارب الديمقراطية وتصنف النظم السياسية والحكومات التي تعاقبت على حكم السودان حيث اعتمدت الإدارة البريطانية حكماً مركزياً بطابع عسكري حتى 1919 ثم تحولت إلى حكم لا مركزي، حكم غير مباشر عبر وسطاء محليين مع الاحتفاظ بطابع الحكم، أي الاستبداد غير المركزي، رافق ذلك نمط سياسات اقتصادية لم تستهدف التغيير الجذري، بل انشاء قطاع اقتصادي وإداري حديث يهيمن على القطاع التقليدي عبر وكلاء على أساس قبلي أو ديني- طائفي. وعلى مستوى المركز تركزت السلطات القضائية، والتشريعية، والتنفيذية والإدارية في يد الحاكم العام.

 وكما حدث في التجربة الاستعمارية في أفريقيا تبلورت في طبيعة الدولة صيغة سلطوية عبر نظام إداري مركزي يقف من ورائه عدد محدود من الاِداريين البريطانيين متحكمين في أكبر الأقطار مساحة، أكثرها تنوعاً وتبايناً أثنياً، وجغرافياً ودينياً وثقافياً.

عدم المساواة البنيوية

ورغم أن الدولة الاستعمارية خلقت مجتمعاً مدنياً حداثياً محدوداً، إلا أن المجتمع فى غالبه قد تميز منذ فترة ما قبل الاستقلال بخاصية عدم المساواة البنيوية منذ فترات تاريخية سابقة، وتبلورت هذه الخاصية البنيوبة في نوع ودرجة من الامتياز تمتعت بها جماعات الوسط النيلي التي يغلب عليها الثقافة العربية – الإسلامية وتأسس في شكل سلوك ريعي متفاعل مع نمط تنمية مختلة وغير متوازنة اجتماعياً وإقليمياً. وجسدت الطبقة الحاكمة، وقواعدها المساندة، هذا السلوك الريعي. ونزعم سياسة الدولة التي تبنتها كتلة القوى المسيطرة تاريخياً في الشمال لم تجد حرجاً في الإبقاء على قاعدة الاقتصاد غير الإنتاجي والإقصاء السياسي لمن هم خارج دائرة الانتماء لدوائر النفوذ، وواصلت منظومة الحكم هذه السياسة بشكل أو آخر من خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، وعاش السودان منذ استقلاله في بداية خمسينيات القرن الماضي ثلاث تجارب ديمقراطية لفترات قصيرة تخللتها ثلاث تجارب حكم عسكري لفترات طويلة. والسودان الآن بعد انفصال جنوبه، وما جرى في ظل الثورات العربية، وبعد ثورة ديسمبر 2018 يتأهب للانتقال لنظام حكم جديد تأمل الأغلبية أن يكون نظاماً ديمقراطياً.

الحكومات التي تعاقبت

وصنف الكتاب النظم السياسية والحكومات التي تعاقبت على الحكم في  السودان منذ الاستقلال كالآتي:

 ديمقراطية 1956-1958،

 دكتاتورية 1958-1964،

 ديمقراطية 1964-1969،

 دكتاتورية 1969-1985،

 ديمقراطية 1985-1989،

 دكتاتورية 1989- 2019 ،

هذا التصنيف الشكلي ينتج معرفة وصفية ليست تحليلية ولا نقدية ولا تساعد بالتالي على الغوص و الإلمام بالطبيعة الاجتماعية لهذه النظم والحكومات، وبالإضافة إلى ذلك فهذا التصنيف يعطي لكل مرحلة من هذه المراحل المختلفة وحدة مظهرية تخفي بداخلها صراعاً ممتداً – يستمر فترة ويهدأ فترة أخرى ـ بين مجموع القوى الطائفية، والتقليدية والمحافظة وتشمل شبه الإقطاع، وأرستقراطية الريف المنحدرين من البيوتات القبلية والدينية، وهناك الطبقة الوسطى الحديثة[1] من معلمين ومهنيين ومختلف شرائح الرأسمالية وأصحاب العمل، والمكون الثالث يتمثل من العاملين في مجال الانتاج المادي وتنظيمات العمال والفلاحين وقطاعات واسعة من البرجوازية الصغيرة والحرفيين – هذا الصراع والتوازن والاستقطاب بين مجموعتي القطبين هو المحدد لطبيعة النظم السياسية والحكومات،  كما أنه يمثل عاملاً مؤثراً في الانتقال والتحول من نظام لآخر منذ الاستقلال حتى نهاية الثمانينيات واستلام الجبهة الإسلامية للسلطة في عام 1989 حيث تغيرت معادلات النفوذ السياسي والسلطة  كثيراً كما سيأتي لاحقاً.

  الديمقراطية الاولى  1954- 1958

يقول البطحاني: قد لا نحتاج للتفصيل هنا إذ أن موضوع فشل التجارب الديمقراطية في السودان قد تناولته دراسات عديدة، وقبل استعراض التجارب لابد من إلقاء الضوء على ملامح الخريطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قبل الاستقلال، ارتبط السودان كمستعمرة بالإمبراطورية البريطانية لنصف قرن نمت خلاله طبقات شبه إقطاعية-أرستقراطية دينية وريفية مع طبقات تجارية ووسطى وعمالية في المدن الكبرى في البلاد. كان السودان، عند إستقلاله، بلداً فقيراً جداً، حيث كان متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد حوالي 78 دولاراً أمريكياً (وهو ما يعادل حوالي 670 دولار من حيث معادل قوته الشرائية سنة 1985)، مما يضع السودان ضمن قائمة أفقر بلدان العالم، وكان هناك تفاوت واضح في مستوى التنمية بين أقاليم البلاد، بالإضافة إلى التفاوت في مستوى التنمية بين مختلف الأقاليم، كان السودان عند إستقلاله مجتمعاً مستقطباً بدرجة عالية على أساس اثني-ثقافي وديني. وربما ليس غريباً أنه عندما كسبَ البلد استقلاله كانت فيه غالبية سكان لا تعرف القراءة والكتابة، اتسمت الطبقة السياسية بالاستقطاب والتشرذم منذ بدايات الحركة الوطنية، ولكن السودان المستقل سياسياً، مع أنه كان فقيراً، ومستقطباً بدرجة عالية، وأمياً إلى حد بعيد، بدأ كدولة مستقلة من طراز بريطاني، مع دستور مؤقت، وأحزاب متعددة، وقضاء مستقل، جرت فيه إنتخابات عامة عام 1953 وصفتها مجلة  نيوزويك “نجمة تشع في وسط ظلام أفريقيا.

إنتخابات 1953م

أجريت انتخابات 1953 في ظروف سياسية اتسمت إلى حدٍ كبير بسطوة الناشطين من الحزب الوطني الاتحادي  الذي تكون عام 1952. ولقد كان للجماعات الاتحادية التي شكلت مؤتمر الخريجين في عام 1938 دور طليعي في تأسيس الأحزاب السياسية والنقابات في الأربعينيات. وانضم الجنوبيون بعد مؤتمر جوبا عام 1947 للعملية السياسية الوطنية، وأيدوا إعلان استقلال السودان من الحكم الإنجليزي المصري في 1955 فقط بعد أن حصلوا على تعهدات من الشماليين بالنظر في مناداتهم بالفيدرالية على نحو يؤمن مصالحهم. وساهمت عدة عوامل محلية وإقليمية في نجاح الحزب الوطني الاتحادي في انتخابات 1953. فقد حصل الحزب على تأييد من علمانيي المدن ومريدي طائفة الختمية، الخصوم التقليديين للأنصار. أما اتباع طائفتي الأنصار والختمية فقد عُرفوا بولاء راسخ لشخص زعيميهما. دعمت الختمية الحزب الوطني الاتحادي لأنه كان مناهضاً للأنصار. وكان الختمية داخل حزب الوطني الاتحادي أول من تخلى عن قضية الوحدة مع مصر بعد أن هزم الوطني الاتحادي حزب الأمة في إنتخابات1953م. أما الأخوان المسلمون، وهم فرع من حركة الأخوان المسلمين المصرية فقد ميزوا أنفسهم بما رأوه تمسكاً بالتعاليم الصارمة للسلوك الإسلامي.

النصر الساحق

وكانت زعامة الأزهري للحزب الوطني الاتحادي تعد كسباً للحزب، فضلاً عن وجود هرم تنظيمي في قمته وتنظيمه تنظيماً فاعلاً على المستويات المحلية. ويرجع النصر الساحق الذي حققه حزب الوطني الاتحادي إلى عوامل كثيرة منها نجاحه في تقديم جاذب للسودانيين في ذلك الحين ولما له من موهبة تنظيمية عالية وقدرة على الاستغلال الرشيد للموارد التي أتاحتها سياسة مصرفية مالية قوية لاسيما الموارد التي وفرتها مصر، وكان من بين أسباب هزيمة حزب الأمة في الانتخابات موقفه الواضح من موالاة البريطانيين بينما قاد وتزعم النضال للحصول على حق تقرير المصير إسماعيل الأزهري. كما أن التعصب والصفة شبه العسكرية التي اتسمت بها طائفة الأنصار جعلها تفقد عدداً كبيراً من جمهور الناخبين.  وقد يكون هناك سبب آخر على قدر من الأهمية ألا وهو أن الفترة من 1948 إلى 1952 للجمعية التشريعية -الفترة التي اشترك فيها حزب الأمة في الحكم مع البريطانيين اتسمت باضطرابات قادها العمال بالإضافة إلى اندلاع مظاهرات وظهور أزمات اقتصادية. لذا، فإن حزب الأمة كان عرضة للانتقاد أكثر من الأحزاب المنافسة له التي قاطعت الجمعية التشريعية.

وأسس بعض السياسيين الجنوبيين حزبَ الأحرار الجنوبي الذي خاض انتخابات 1953 بمن فيهم (زعماء القبائل الجنوبيين ممن لم تستطع الأحزاب الشمالية استمالتهم) والذين لم يحصلوا على دعم النخبة المستنيرة من الجنوبيين فحسب بل أيضاً (السواد الأعظم منهم). ومن المفيد الإشارة إلى أن الحزب هدف إلى تأمين مصالح الجنوبيين بالعمل والتعاون مع حكومات الائتلاف في الشمال وذلك بغرض تحقيق الحكم الذاتي لإقليم الجنوب. (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *