أطراف الاتفاق الإطاري والعدالة الانتقالية.. تدابير للإنصاف أم تفاهمات للإفلات من العقاب؟
الخرطوم: أيمن سنجراب
جدل كثيف صاحب الإعلان عن وثيقة الإعلان الدستوري التي أعدتها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، والاتفاق الإطاري الموقع بين مجموعة من القوى المدنية والمكون (الانقلابي) في (5) ديسمبر الماضي، وموضع الجدل المعني في هذا التقرير هو العدالة الانتقالية التي تم النص عليها في الوثيقتين (الدستورية والاتفاق الإطاري) لتجعل الكثيرين يدفعون بالعديد من الأسئلة.
ومن بين تلك الأسئلة: (هل تتجه قوى الحرية والتغيير الموقعة على الاتفاق الإطاري من جانب و(الانقلابيون) من جانب آخر نحو شراكة تضمن السلطة للمدنيين وللعسكريين الإفلات من العقاب من الجرائم التي تم ارتكابها في مناطق السودان المختلفة، وعلى رأسها مجزرة فض الاعتصام من أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في (٣) يونيو ٢٠١٩م؟، أم يعمل الطرفان معاً على اتخاذ تدابير حقيقية تقود للإنصاف عبر العدالة الانتقالية؟.
وكان الاتفاق الإطاري قد حدد جملة من القضايا وترك أمر الاتفاق النهائي حولها بالمشاركة الجماهيرية الواسعة من أصحاب المصلحة والقوى الموقعة على الإعلان السياسي وقوى الثورة لتطوير الاتفاق الإطاري، ومن ضمن تلك القضايا العدالة والعدالة الانتقالية التي اعتبر الاتفاق أنها تحتاج لمشاركة أصحاب المصلحة وأسر الشهداء على أن تشمل كافة الذين تضرروا من انتهاكات حقوق الإنسان منذ عام 1989م.
كما شملت تلك القضايا الإصلاح الأمني والعسكري، ونص الاتفاق على ضرورة بناء وإصلاح جيش واحد مهني وقومي وفق ترتيبات أمنية متفق عليها، بجانب قضية اتفاق جوبا لسلام السودان وإكمال السلام، وأمن على تنفيذ اتفاق سلام جوبا، مع تقييمه وتقويمه بين السلطة التنفيذية وشركاء الاتفاق وأطراف الإعلان السياسي، بالإضافة إلى قضية تفكيك نظام 30 يونيو، وغيرها.
وأطلق الموقعون على الاتفاق الإطاري بتيسير من الآلية الثلاثية (الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية “إيقاد” والأمم المتحدة) المرحلة النهائية للعملية السياسية التي تهدف وفقاً لهم للوصول إلى اتفاق سياسي نهائي وعادل، استهلتها بورش تفكيك نظام 30 يونيو والسلام، على أن تلي ذلك مشاورات واسعة حول بقية القضايا، وتوقعت تلك القوى أن ينتج عن مجموعات العمل والمؤتمرات خرائط طريق حول كلّ القضايا التي سيتم النظر فيها في الاتفاق السياسي النهائي.
وواجهت القوى الداعمة للإعلان الدستوري والاتفاق الإطاري، عدة انتقادات ويُعنى هذا التقرير بالجانب المتعلق بالعدالة الانتقالية، حيث قابل التوجه نحوها رفضاً من قوى ثورية بينها لجان المقاومة.
مقياس ثوري
وأفاد عضو تنسيقية لجان مقاومة الخرطوم شمال عبد المنعم أبو القاسم، بأن المقياس الذي ينظر به إلى القضايا هو نجاح الثورة، وأنه طبقاً لذلك فإن الاتفاق الإطاري يهدف لوأد الثورة ومنعها عن الوصول لأهدافها.
وأضاف أن المعيار الأساسي للحل الثوري يتمثل في (3) أشياء حددها في إسقاط النظام البائد حقيقة ومحاسبته في عدة قضايا في مقدمتها القصاص للشهداء وتحقيق العدالة في قضايا الجرحى والمصابين والمفقودين وغيرهم، بمحاكمات ثورية وليس العدالة الانتقالية.
وتابع أن من بين معيار الحل الثوري تكوين مجلس تشريعي بغالبية من الثوار لضمان التمثيل الحقيقي للشعب وإعداد القوانين العادلة في الدولة المدنية.
حملة
وشدد عبد المنعم، على أهمية وقف ما أطلق عليه الغش على مكونات الثورة وأجسامها المدنية باسم العدالة الانتقالية، واعتبر أن هناك توجه لعقد ورش ضمن حملة للترويج للعدالة الانتقالية بما يجافي معناها ويحول دون تحقيق العدالة الجنائية والاتجاه نحو العفو والإفلات من العقاب، وتمسك بأن القضية المحورية في العدالة الجنائية هي قضية فض الاعتصام المصنفة بأنها ضمن الجرائم ضد الإنسانية وتحاكم بموجب المادة (186) من القانون الجنائي السوداني وأنه لا يمكن العفو فيها.
انعدام الثقة
ولفت عضو تنسيقية لجان مقاومة الخرطوم شمال عبد المنعم أبو القاسم، إلى أن العدالة الانتقالية تطلب انتصار طرف على آخر لضمان تحقيقها كما هو مطلوب، ولا يمكن تطبيقها قبل انتهاء النزاع، واستند على ذلك بعدم توفر الثقة في أجهزة الدولة مستدلاً بإطلاق سراح عدد من المتهمين، وعدم القبض على المتهمين في قضايا الشهداء، ومضى للقول إنه إذا كان هناك استدلال بالعدالة الانتقالية في رواندا فإن آلاف المتهمين هناك قد تم القبض عليهم عكس ما يحدث في السودان.
وطالب عبد المنعم، الخبراء الذين يشاركون في ورش العدالة الانتقالية بتوضيح رؤيتهم للرأي العام في منابر عامة حتى لا تفهم تلك المشاركة بأنها تهدف للتأثير على أسر الشهداء وغيرهم من المطلبيين للإفلات من العقاب، وتساءل متعجباً: (كيف يكون المتهم الأساسي في الجرائم وقد ذاع اعترافه على الهواء ضمن تركيبة الحكم ومؤتمناً على أمن المواطنين، وكيف يتم ضمان وقف الجرائم وعدم تكرارها؟!).
تعارض
وتمسك عبد المنعم، برؤيته بأن هناك تعارض بين معايير نجاح الثورة ومفهوم التسوية أو المصالحة التي تتضمن العدالة الانتقالية في شكل تنازل عن المعايير المطلوبة لنجاح الثورة، وشدد على أن هناك تركيزاً على استبدال القصاص بالعدالة الانتقالية وفقاً لذلك المفهوم، وأضاف: (الحرية والتغيير ليس لديها قبول في الشارع الثوري)، ونوه في الوقت ذاته على الضغوط الدولية لتكوين حكومة وفرض حلول لحفظ مصالح الدول العظمى في الإقليم (بدغمسة قضية العدالة).
ووصف عضو تنسيقية لجان مقاومة الخرطوم شمال عبد المنعم أبو القاسم، نظرة المجتمع الدولي بالقاصرة، ورأى أنه من الأولى دعم الثورة ليأتي من هو متطلع للتعاون بندية ويكون نصيراً للديمقراطية وقيم الحرية وحقوق الإنسان.
العدالة وميثاق اللجان
ومن جانبه تحدث عضو لجان مقاومة أمدرمان القديمة حسام الدين علي، عن ما ورد في الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب، ووجهة نظر المقاومين الميدانيين خارج الميثاق ممن يدعمون القصاص، وأبان أنهم يدعمون أولياء الدم في مطلبهم بالقصاص، (بتوفير الدعم المجتمعي مقابل السياسيين الذين يهدفون لتمييع العدالة)، وقال لـ (مدنية نيوز) اليوم: (كما أن هناك أولياء دم مع العدالة الانتقالية ويرغبون في الإعفاء، وهؤلاء لا نتجاوز حدودنا معهم)- في إشارة إلى احترام رؤيتهم باعتبارهم أولياء دم-.
نقد المواقف
وحول موقف القوى السياسية بعد توقيع الوثيقة الدستورية في 2019م، وصفه حسام، بأنه ضد القصاص مستنداً على تعيين رئيس لجنة التحقيق في جرائم فض الاعتصام نبيل أديب، دون رغبة أسر الشهداء وعدم تمثيل تلك الأسر في اللجنة وعدم توفير مقر لها لفترة طويلة، وعدم توفير المعينات اللوجستية والمادية وعدم التعاون مع الجهات الدولية والمحلية من ذوي الخبرة الذين يمكن أن يعينوا في التحقيق، وردد: (نحن في لجان المقاومة اعتبرنا ما يحدث مؤشرات على أن الحكومة بقيادة د. عبد الله حمدوك، والحاضنة السياسية يقصدون تمييع العدالة وطمس الحقائق).
وأضاف: الأجسام الثورية رفعت شعار القصاص خلال الفترة الانتقالية ثم جاء انقلاب (25) أكتوبر وفقدنا مزيداً من الشهداء ورفعت الحرية والتغيير شعار المجزرة والقصاص ومارست الابتزاز على المكون العسكري الانقلابي إلى حين ظهور ملامح التسوية السياسية والاتفاق الإطاري.
ونعت حسام، الاتفاق الإطاري بأنه أسوأ من الوثيقة الدستورية في 2019م التي تحدثت عن القصاص ومحاسبة الجناة، كما انتقد الإعلان الدستوري الذي أعدته اللجنة التسييرية لنقابة المحامين.
ضمان العفو
وأشار حسام، إلى تقنين الإفلات من العقاب في الخطوات التي تمضي بشأن الاتفاق النهائي.
يذكر أن المادة (54-4) من الإعلان الدستوري نصت على: (دون المساس بالحق الخاص، لا يجوز اتخاذ إجراءات قانونية في مواجهة شاغلي المواقع القيادية العليا بالأجهزة النظامية عند صدور الدستور بحكم مناصبهم الدستورية أو العسكرية، بشأن أي مخالفات قانونية تم ارتكابها قبل توقيع الدستور الانتقالي لسنة 2022، بسبب أي فعل أو امتناع قام به أعضاء أو أفراد الأجهزة النظامية ما لم يكن ذلك الفعل أو الامتناع موضوع المخالفة ينطوي على اعتداء جسماني أمرت به القيادة العليا فرداً أو عضواً بشكل مباشر بارتكابه.
وأبان عضو لجان مقاومة أمدرمان القديمة حسام الدين علي، أن تلك المادة تعني ضمان العفو عن الآمرين بارتكاب جرائم مجزرة القيادة العامة وتوجيه الاتهام إلى صغار الجنود أو صغار المنفذين، (وأن ذلك العفو يحول مجزرة القيادة وما تلاها من مجازر في العاصمة والأقاليم ودارفور “كريندق، جبل مون، نيرتيتي” من المادة 186 من القانون الجنائي المتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية إلى المادة 130 من ذات القانون).
وزاد: في الظروف العدلية الحالية والمستقبلية التي يحميها الاتفاق الإطاري من الصعوبة إثبات المادة 130 “القتل العمد” على صغار الجنود لأن تلك المادة تعتمد على أركان الجريمة “الجثمان، التقرير، الشهود الذين رأوا القاتل”، وأوضح أن قوات الأمن تكون ملثمة ولا تحمل سياراتها لوحات.
واستدل حسام، على صعوبة الإثبات بمواجهتهم إشكالات إجرائية بموجب قانون الإثبات في تحديد القاتل عيناً (حيث تقوم الشرطة أو التحري بالمطالبة بتحديد القاتل، ثم يقوم القسم المعني بنفي صلته بالقوة التي نفذت عملية القتل وبذلك تنتهي قضية الاتهام وفقاً للمادة 130 وتكون المحصلة البراءة وشطب البلاغ لعدم كفاية الأدلة).
وأردف: (في أحسن الأحوال إذا استطعنا أن نثبت ونحدد القاتل نصطدم بموضوع رفع الحصانات سواء كان القاتل من الشرطة أو الدعم السريع أو الجيش، وبذلك تكون الحجة التي تقودنا إليها المادة الدستورية المشار إليها سابقاً إلى المادة (130) وسيلة مباشرة لتمييع العدالة.
ورجع عضو لجان مقاومة أمدرمان القديمة حسام الدين علي، إلى المادة (186) المتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية، ونبه إلى أنها تحتاج غطاءً سياسياً لتوجيه الاتهام للمجتمعين في تاريخ 25 مايو 2019م – على خلفية مجزرة فض الاعتصام- بحضور المجلس العسكري والنائب العام، واعتبر أن المادة 186 ملغاة تماماً بموجب المادة “54/4” من الإعلان الدستوري التي كفلت العفو استناداً على الاتفاق الذي حدث عقب ثورة أكتوبر وإسقاط النظام بقيادة إبراهيم عبود.
وواصل حسام، في إفادته بأن هذا يعني أنه في حالتي المادتين (186) أو (130) هناك تمييع للعدالة، وشدد قائلاً: (هذا ما ترفضه كل التنسيقيات الموقعة على الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب والأجسام الثورية خارج الميثاق).
محاولة للتفرقة
وكشف عضو لجان مقاومة أمدرمان القديمة حسام الدين علي، عن رصد لجان المقاومة محاولات جادة لتشطية منظمة أسر الشهداء من قبل مكتب رئيس الوزراء السابق د. حمدوك، المتعاون مع منظمات دولية تريد استقراراً مزاجياً للسودان، ومن قبل الحرية والتغيير في نسختها الأولى وبعد الاتفاق الإطاري، وذكر: (مقابل هذه المحاولات اتخذت لجان المقاومة موقفاً واضحاً وموحداً خلف أولياء الدم الراغبين في القصاص، وتضاءلت أمام رغبة أولياء الدم الراغبين في السير في طريق العدالة الانتقالية وفقاً للإعلان الدستوري أو أولياء الدم الراغبين في العفو.
وأوضح حسام، أن لجان المقاومة لجأت لذلك الموقف لتحصين نفسها بخيارات أولياء الدم بعد اتهام منسوبين للحرية والتغيير للمقاومين الذين دعموا توجه أولياء الدم الراغبين في القصاص، بالتبعية لجهاز الأمن أو الرغبة في جر السودان لحرب أهلية، أو بتسلق دم الشهداء، (كما تم تنسيبنا للحزب الشيوعي)، وأكد في الوقت ذاته دعمهم لذلك الموقف حتى ولو تبقى ولي دم واحد.
(عدالة ميتر)
وشدد حسام، على أن مقياس العدالة لدى داعمي مطلب القصاص هي (مذبحة القيادة العامة)، وأن تحقيق العدالة فيها سيعني الجدية في تحقيق العدالة في سلسلة الجرائم والانتهاكات المرتكبة منذ الاستقلال.
ورغم أن الاتفاق الإطاري نص على وضع حد للإفلات من العقاب والمحاسبة على اقتراف الجرائم الجسيمة والإبادات الجماعية وانتهاكات القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، وإطلاق عملية شاملة تحقق العدالة والعدالة الانتقالية وتكشف الجرائم وتحاسب مرتكبيها، وتنصف الضحايا، وتبرئ الجراح، وتضمن عدم الإفلات من العقاب وعدم تكرار الجرائم مرة أخرى، إلا أن الكثير من لجان المقاومة والقوى الثورية لا تثق في تلك النصوص.
نموذج غير قابل للتطبيق
ويرى عضو لجان مقاومة أمدرمان القديمة حسام الدين علي، أن العدالة الانتقالية التي تسعى قوى الحرية والتغيير لتنفيذها مبتسرة، واستند على أن التجربة الرواندية تمت فيها إدانة كبار القادة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم، وحدث فيها اعتراف من الجناة وتشكلت آلاف المحاكم الشعبية، وتم إجراء محاكمات حقيقية، بينما لم تتوفر تلك الأركان في الحالة السودانية، حيث يرفض (الانقلابيون الاعتراف بارتكاب مجزرة القيادة العامة رغم إقرار الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري الفريق أول شمس الدين كباشي).
وأكد حسام، تمسكه بأن نموذج العدالة الانتقالية في رواندا يتعذر تنفيذه في السودان لاستمرار المحاولات بـ (فرض عفوٍ قسريٍّ عن القتلة رغم أنف أولياء الدم وأسر الضحايا).