السودان.. الحرب والأعياد
بقلم: حسين سعد
دخلت حرب ١٥ أبريل بين الجيش والدعم السريع عيدها الرابع، ومع بزوغ فجر كل عيد من هذه الأعياد الأربعة حكاية لفصولها وتداعيات لهذه الحرب العبثية على الناس، كل الناس في العيد الأول للحرب حضرته بالخرطوم برفقة أسرتي كاملة أما العيد الثاني فقد حضرته بنصف أسرتي في الجزيرة مع أمي وشقيقتي وأبنائها، أما العيد الثالث فقد أمضيته في الجزيرة أيضاً لكن بمنطقة أخرى، حيث اضطرتني ظروف الحرب لاستبدال مهنتي، بدلاً عن مهنة الصحافة والبحث عن المتاعب إلى مزارع، وكما قال الشاعر محمد طه القدال:
بقول غنوات.. بقول غنوات
في البلد البسير جنياتها لقدام..
وفي الولد البسل ضرعاتو في العرضة ويطير في الدارة صقرية.. ولو السمحة تلت إيد ومدت جيد تقوم شايلاه هاشمية
يشيل شبال ختة ريد.. وفرحة عيد.. وغيمة روح.. وحمرة عين وايدية
وفي الولد البشيل مدقاقو قولة خير على القمرة
يقابل الجاية متحزم ويقابل الجاية متلزم.. سلام فاسك على أرضك يبقى عديلة يا بيضاء
ويبقى زفاف غنت ليه قمرية
يا قمحاتنا هو لبلب
يا تمراتنا هو لبلب
ويا اللوز الفتق في الوادي هو لبلب.. ويا سمحاتنا يا قمحاتنا هو لبلب.. شليل فوق التقانت قام خضار وبلاد
شليل مشوار.. شليل مسدار
شليلنا أرضنا يا جنيات
شليل ما راح.. شليل ما فات
مزارع بات على عشقين.. تراب بلدو وسماح فوق بت مزارعية..
أما العيد الأخير فقد حضرته خارج السودان.
حكاية تلك الأعياد..
في العيد الأول كانت أصوات الرصاص والدانات ليلاً ونهارًا، والطائرات تلق بحممها على الأبرياء، والقناصة بأسلحتهم في البنايات العالية، والشوارع تضج بالارتكازات ونقاط التفتيش، والمعارك العنيفة تدور بهدف الاستيلاء على منطقة عسكرية أو سكنية، أما أفراد طرفا الحرب
كل في منطقة سيطرته، فقد انخرطوا في قتل عشوائي للمدنيين واعتقالات طالت أبرياء، ونهب للمنازل والممتلكات، هذه الوضعية فرضت فوضى وحالات نهب واسعة للمصانع والأسواق والمحلات التجارية، فارضة لغة السلاح ولغة الغاب محل القانون.
وسادت لغة القوة والعنف والترهيب، والتهجير القسري، لسكان الخرطوم أفراد وجماعات هاربين من لعلعلة الرصاص ودوي المدافع وبراميل الطائرات التي حصدت أرواحاً عزيزة. وبعد أقل من شهر لبداية الحرب تفرقت الأسر ومُزقت العلاقات الاجتماعية، وقُطعت أوصال العاصمة وتوطن الموت والرعب في أحيائها، في ظل انقطاع للكهرباء والماء والخدمات العامة والمرافق والمؤسسات، والمستشفيات ومع انهيار البنى التحتية وخراب المباني وتحطيم الجسور والكباري، وتفحم السيارات والمجنزرات العسكرية بالطرقات، وألسنت الدخان وزخات الرصاص تركت آثارها في البنايات الخرصانية العالية، هذه الصور تعكس حجم الدمار بالعاصمة.. ويلخص الشاعر امرؤ القيس حال بيوت العاصمة بقوله:
يا دار جئتك والأحباب قد رحلوا
فلا جليس ولا صوت ولا مقل
أمشي وأسأل والجدران تسمعني
وهل يجيب إذا ناديته الطلل
يا راحلين وفي عيني منزلهم
لا لن تغيبوا إلى أن يحضر الأجل
مواسم السعد جفت بعد غيبتهم
فهل تعيش قلوب هدها الوجل
يا من رحلتم ولم ترحل مودتكم
ما زال يسكن في أعماقنا الأمل
العيد في الجزيرة..
وبعد شهرين من الحرب وتحديداً في يونيو ٢٠٢٣م غادرت برفقة أسرتي الخرطوم إلى ولاية الجزيرة التي استقبلتنا كما استقبلت غيرنا من الفارين من جحيم الحرب، متقاسمين مع أهلنا الطعام والشراب والعلاج، وفي الطريق إلى الجزيرة كانت ارتكازات الدعم السريع تتفرس وجوه الناس ومطالبتهم بإبراز هويتهم، ذات الحال عندما تصل ارتكازات الجيش، هناك التفتيش الدقيق للحقائب والممتلكات التي تصادر بعضها بحجة عدم وجود فاتورة شراء. لكن في ديسمبر الماضي عقب دخول قوات الدعم السريع إلى ولايه الجزيرة عاد كابوس الحرب والموت مرة أخرى، لكنه كان جماعيا في كل من التكينة والولي والحوش والشيخ تاي الله، وود النورة والمعيلق وقرية ٢٣ بدر والحرقة والحصاحيصا، وسرحان ومدني.
جاءت قوات الدعم السريع حاملة رصاص الموت، انقضوا علة القرة الآمنه كوحوش ضاربة، يمزقون الصمت بأصوات الرصاص وصراخ الضحايا لا يفرق رصاصهم بين صغير أو كبير رجل أو امرأة، طفل كان أم عجوزاً، حينها سالت دماء الأبرياء على أرض المحنة كأنهار من الحزن تروي عطش الجزيرة من دموع المظلومين، حتى تحولت طرقات قرى ومدن شيخ المشاريع الزراعية إلى مسرح للدماء والموت، وقبور جماعية،
فحتى حواشاتهم، وقد نهبت محاصيلهم وكذلك ممتلكات سنين الغربة.
مجالس تلك القرى تتحدث يوميا عن مهاجمة قرية ما ومطالبة أهلها بسداد مبالغ مالية خرافية.
تسببت هذه الوضعية القاسية في حالات نزوح جماعية وفردية من قرى ومدن الجزيرة، والعكس هذه الوضعية نردد كما قال الشاعر محمد الحسن سالم حميد:
ست الدار بت أحمد كيفك
جاني جوابك مفتوح شارع
جاني جوابك وأنا بتذكر في ناس راشد والتومات
في الشتلات والحالة عموم
ناس حلتنا التحت.. الفوق
الليهم الله وعيشة السوق
عموما إن بلادنا مثخنة بجراح الحروب اللعينة لسنوات طويلة، ولم (تأخذ) بلادنا نفساً عميقاً لكي تستريح من تلك الفظائع والمرارات الناجمة من أهوال حروبها الدامية في جنوب السودان، قبل انفصاله، حتى تندلع حرب أخرى في دارفور، ومن ثم جنوب كردفان والنيل الازرق والشرق، هذه الحروب لا تكاد تنتهي حتى تنفجر مرة أخرى، مثل حرب ١٥ أبريل العبثية.
هذه الحروب دفعت شاعر الشعب محجوب شريف قبل رحيله الفاجع للقول (ميري ذكرينا عشة ذكرينا.. كل سونكي يبقي مسطرينة) هذا ما قاله المحجوب الشريف في فظائع حرب الجنوب، داعيا للتخلي عن الحرب والعودة إلى المحبة والسلام.
حكاية العيد الرابع..
اليوم أطل علينا عيد الأضحى المبارك الذي يعتبر العيد الرابع على هذه الحرب اللعينة، فقد حضرته وأنا خارج السودان، فقد جاء العيد كبقية الأيام حاملاً معه غصة اللجوء والتشرد عن الديار والمنازل، وتهديدات الحرب ولعلعة رصاصها، أما الحال في مدن بلدان اللجوء والتشرد تكاد لا تلامس أي مظاهر للعيد، فلا تغيير طارئ يشير إلى قدومه، ولا دخان للشية، أو رائحة الشية والمرارة والشربوت، وفي معايدتي مع أهلي وأصدقائي قال لي بعضهم: إن العيد لا طعم له ولن يحل عليهم إلا بالعودة إلى منازلهم وقراهم، ونهاية رحلة النزوح والألم المستمرة منذ أكثر من عام، وبالرغم من محاولتهم التحامل على آلامهم لإدخال قليل من البهجة على الأطفال؛ فإنهم لم يقدروا على تقديم ملابس جديدة أو ألعاب لهم، جراء فقر الحال وضيق ذات اليد وغلاء المعيشة، ومضى بعضهم للقول إن العيد صار عبئاً كثيراً عليهم في ظل هذه الظروف التي فرضت عليهم بسبب الحرب، وأنهم لا يستطيعون سداد المصاريف المعيشية.
الجدير بالذكر أن غالبية سكان ولايتي الجزيرة والخرطوم من العمال والموظفين وأصحاب المهن الهامشية، وفي الختام نردد مع الشاعر
محمد الحسن سالم حميد:
أدعياءُ الحرب كالحرب تمامًا
أولياءُ السلم لا خوفٌ
عليهم لا حزَنْ
وإذا مرّوا بهم
قالوا سلاما
وإذا غُمَّ بهم
نادوا وطنْ..