جريمة فض الاعتصام أو (حدث ما حدث)
بقلم: حيدر المكاشفي
مرت علينا يوم التاسع والعشرين من رمضان، الذكرى الاليمة السادسة لجريمة فض الاعتصام القذرة، ذلك الاعتصام الذي كانت ساحته كما علم الكل وشهدوا قد جمعت فأوعت وصارت سودانا مصغرا، ليس للتعبير عن مواقف سياسية، بل أضحت ساحة تمور وتضج بالنشاط الثقافي والفني والاجتماعي والتكافلي، ومختلف ضروب الإبداع. من حلقات أدبية وقراءات شعرية ووصلات موسيقية ومعارض للكتاب والقراءة ومعارض للفنون التشكيلية والرسم والتلوين والتصوير الفوتوغرافي ومخاطبات توعوية وحلقات نقاشات ومثاقفات وتبادل للآراء والأفكار، وتجمعات لتلاوة القرآن الكريم وحلقات ذكر صوفي وليالي طرب وغناء وإيقاعات شعبية وتراث شعبي من أركان البلاد الأربعة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وكانت هناك أيضا مساحات للترويح والمؤانسة والضحك والسخرية واسكتشات درامية، وغير ذلك من فعاليات وأنشطة متعددة ومفيدة أخشى أن أكون قد نسينا بعضها، ولكن بقول واحد نجمل القول بأن ميدان الاعتصام في محيط القيادة العامة للجيش، صار هو أفضل وأنسب مكان تغشاه الأسر ويفضله حتى الأطفال الصغار ليعيشوا أجواءه ويستمتعوا بزخمه وحيويته وتنوع إبداعاته، إنها بالفعل ثورة شاملة فكرية واجتماعية وثقافية، وكان ذلك هو المد الثوري الفعلي الذي كان غائبا وتفتقده البلاد..
الا ان جاء ذاك اليوم المشؤوم الاسود،فرغم مرور أيام سوداء عديدة علينا، الا أن يوم الاثنين التاسع والعشرين من رمضان الموافق الثالث من يونيو عام 2019 سيظل هو يومنا الأكثر سوادا، وسيبقى محفورا فى ذاكرة الأجيال تجتره فى أسى جيلا بعد جيل، ذاك هو يوم فض الاعتصام المشؤوم، تلك الجريمة النكراء التي ستبقى وصمة لا تمحى وعارا لن يزول على القيادات العسكرية الذين احتمى بسوح قيادتهم العامة وأقاموا اعتصامهم حولها اولئك الشباب والشابات البواسل، ففي كل الأحوال لن تكون هذه القيادات بمنجاة من هذه الوصمة، فان لم يكن قرار فض الاعتصام من كيدهم وتدبيرهم فانهم على الأقل تقاعسوا عن حماية هؤلاء الشباب وغضوا الطرف وخلوا بينهم واولئك القتلة السفاحين، فمن العسير ابتلاع أي مبرر طالما أن تلك المجزرة والمقتلة وقعت أمام ناظريهم بل وبين ظهرانيهم، فما (حدس ما حدس) في ذلك اليوم الأسود كان جريمة خطط لها المجرم بعناية وكان في كامل الاستعداد والجاهزية بالسلاح والعتاد، بينما كان الضحايا سلميين ومسالمين عزل بل كانوا يستشعرون الأمان لكونهم فى استجارة قواتهم المسلحة، فتخير المجرم ساعة السحر حين كانوا نيام وهم صيام لتنفيذ جريمته البشعة الانتقامية الدموية الشيطانية بلا رحمة ولا وازع من دين ولا أخلاق، وكيف لا يفعل ذلك وهو في غاية الاطمئنان بعدم وجود من يتصدى له ويقارعه بالسلاح، وهذا ما يكشف أن هذه الجريمة لم تتم على عجل وانما بتخطيط وتنسيق وخطة محكمة وتأهيل وتهيئة للمنفذين حتى لا يرأفوا أو تأخذهم شفقة بالمعتصمين، ونستعيد هنا كلمة الفريق شمس الدين كباشي التي جاءت في خاتمتها عبارة (وحدث ما حدث) التي سارت بذكرها الركبان واضحت مثلا، (وفى الليلة السابقة للتنفيذ، دعونا لاجتماع موسّع حضره كل أعضاء المجلس العسكري الانتقالي، حضره كل قادة القوات النظامية والقوات المسلحة.
رئيس الأركان ومجموعته.
رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية.
مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني ونائبه.
مدير عام الشرطة ونائبه.
قائدقوات الدعم السريع.
وطلبنا ايضاً من السيد رئيس القضاء والنائب العام أن يحضروا هذا الاجتماع لتقديم المشورة القانونية.
كل الذين ذكرتهم كانوا حضور في ذلك الاجتماع، أخذنا الإستشارات القانونية اللازمة في كيفية التعامل مع مثل هذه الظروف في هذه المنطقة الحساسة، وشاكرين السيد رئيس القضاء، السيد النائب العام قدموا لنا الاستشارات اللازمة ثم خرجوا، ومن ثم وجّهنا القيادات العسكرية بالتخطيط لفض هذا الاعتصام وفق الإجراءات العسكرية والأمنية المعروفة، القيادات العسكرية ذهبت ووضعت خطتها ونفذّت وحدث ما حدث).كما أن الذي حدث بالبشاعة والدموية التى حدث بها يؤكد ويعزز ذلك، فليس بين المعتصمين ومنفذي الجريمة قضية عار أو ثأر أو غبينة حتى يهجموا بالاف بل قل يغدروا بكل تلك الروح الوحشية البربرية على المعتصمين العزل الذين لم يبدو أي مقاومة أو دخلوا فى مواجهة معهم، ورغم ذلك يطيحون فيهم تقتيلا وسحلا ودهسا واغتصابا لبعض الحرائر والقاء بعض الجثث فى مياه النيل وبعض آخر ما يزال فى عداد المفقودين لا يعرف حتى الان ان كانوا أمواتا فينعون أو أحياء يرجون..
والسؤال الذي ما يزال يشغل البال فى هذه القضية هو لماذا كانت كل تلك القسوة والفظاظة والبشاعة والشناعة في عملية فض الاعتصام، وما هي الجريمة الخطيرة التى ارتكبها هذا الشباب النضر المبدع الاعزل، وما هى الاسلحة الفتاكة التي كانت بحوزتهم حتى يغيروا عليهم ويغدروا بهم ويعملوا فيهم اسلحتهم بنية ابادتهم كما حدث فى دارفور المكلومة..وفى خاتمة هذا التذكر الأليم لحادثة فض الاعتصام المفجعة، لا نملك غير أن نذكر كلالمتباكين على الشهداء والمطالبين بضرورة القصاص لهم من سياسيين وعسكريين بمقولة الامام الحسن البصري، حين كان الامام حسن البصري في أحد الايام يخطب في من حضروا مجلسه ويعظهم، فبلغ بهم التأثر والانفعال بالخطبة مبلغا جعل أصواتهم ترتفع بالبكاء والنحيب، فاستغرب الامر واستحضر في نفسه ما انتشر في المجتمع من ظلم وفساد، وقال مقولته الخالدة (عجيج كعجيج النساء ولا عزم، وخدعة كخدعة إخوة يوسف جاءوا أباهم عِشاءً يبكون)..وسلام على كل شهدائنا فى الخالدين.