السودان أرض البطولات والثورات (9)
كتب: حسين سعد
لمعرفة التشابهات والفروقات الرئيسة لدور الحركة النقابية في الانتقالين السابقين في أكتوبر 1964 ومارس/أبريل 1985، من جهة، والانتقال في أعقاب ثورة ديسمبر 2018، من جهةٍ أخرى،نشير الي مداخلة للدكتور الواثق كمير بعنوان (الناقبة والسياسية :دور الحركة النقابية في الإنتقال) قدمها في ندوة نظمها فرع الحزب الشيوعي في تورنتو، وأوضح كمير أنه سيركز على إنتقال 1985، لسببين، السبب الأول لأنه كان شاهداً وناشطاً في العمل النقابي، بحكم موضعي في اللجنة التنفيذية للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم آنذاك، وثاني الأسباب أن الانتقالين متشابهين في كثير من الجوانب (مثلاً: من حيث طبيعة الأحزاب السياسية والعلاقة بينها وبين النقابات، وأيضاً في مؤسسات الفترة الانتقالية، وفي مدة الحكم الانتقالي الذي لم يتجاوز العام الواحد في كلتا الحالتين). ولكن، تظل هذه المقارنة محكومة بنقطة منهجية ينبغي وضعها في الإعتبار، فالفترة الانتقالية الراهنة، التي أعقبت سقوط نظام الإنقاذ، لم تكتمل بعد حتى يمكن مقارنتها مع الانتقالين السابقين اللذين وصلا لنهايتهما المنطقية، وعلى رأسها الوصول إلى محطة الانتخابات، الحلقة الأولى في سيرورة التحول للديمقراطي، لذلك من الصعب معرفة التداعيات والمالآت لفترة الانتقال الراهنة، وتكمنُ الدالة الوحيدة في قراءة المؤشرات المُتاحة.
قوة النقابات:
وأضاف الواثق :بالرغم من أن كل من الدولة والمجتمع المدنى بالسودان عموما قد اتسما تاريخيا بالضعف، إلا أن الحركة النقابية استطاعت أن تحتفظ بقدر من القوة و الحيوية حتى عام 1989، بالرغم من 16 عاماً من حكم نميري الشمولي، إذ ظلت تتمتع بنفوذ نسبى مقارنة بمنظمات المجتمع المدنى الأخرى،وأدخل نظام مايو (1969-1985) مفهوماً سياسياً جديداً على الحركة العماليه، (شركاء وليس أُجراء)، تحت مظلة شعار اتحاد القوى العاملة ووفق (قانون النقابات الموحد لعام 1971)، والذي ترك أثراً بالغاً على نقابات العمال مما قاد إلى إحجام بعض النقابات عن المشاركة في انتفاضة مارس/أبريل، (فقد برزت قيادات عمالية من داخل النقابات بعد انقسام الحزب الشيوعي في 1971). وهذا الوضع بدوره أفضى إلى تصدر النقابات والاتحادات المهنية للمشهد النقابي وإلى المساهمة المباشرة في إسقاط نظام نميري. مقارنة بسيطة بين دور اتحادات العمال والمزارعين (خاصة اتحاد مزارعي الجزيرة) في ثورة أكتوبر ودورهم في انتفاضة مارس/أبريل توضح تناقص وتقلص هذا الدور، فعلى سبيل المثال، كان نصيب العمال والمزارعين مقعدان وزاريان في حكومة سر الختم الانتقالية الأولى، بينما لم يكن هناك تمثيلا يُذكر للحركة العمالية واتحادات المزارعين في حكومة الجزولي دفع الله الانتقالية، ولا حتى في الحكومتين الانتقالين لثورة ديسمبر>
إنقلاب 1989م:
شكلَّ انقلاب 30 يونيو 1989 نقطة تحول أساسية فى تطور الحركة النقابية السودانية، فبعد أن قامت سلطة الإنقاذ الإنقلابية في أول مراسيمها بحل كل النقابات، وإعتقال وفصل الآلآف من العاملين والقيادات النقابية، فرض النظام قانون النقابات لعام 1991، والذي إنحرف بشكل جذري عن تاريخ الحركة العمالية السودانية المتجذر في التقاليد الديمقراطية فيما يتعلق بتنظيم وتنظيم أنشطة النقابات العمالية. فالقانون عمل على تقييد الحرية النقابية والديمقراطية الداخلية بفرض العديد من القيود على النشاط النقابي، خاصة عدم التمييز بين نقابات العمال والمهنيين والفنيين والمعلمين. وبدلاً من ذلك، أصبحت النقابة تُعرّف ب “المَنشأة” التي تُخلط كل هذه المهن، واعتبارها مهنة واحدة، ف “العامل” هو أي شخص يؤدي أي نوع من العمل طالما أنه يكافأ في المقابل بأجرٍ أو راتب. وبهذا التعريف تم التغييب الكامل لمفهوم المصالح المشتركة للعاملين في مهنة واحدة. وهذا التطور بدوره أضاف عاملاً جديداً لإضعاف الحركة النقابية خلال حكم الإنقاذ خاصة في ظل التحول من القطاع العام إلى القطاع الخاص وهو تحولٌ يتناقض مع مفهوم نقابة المنشأة.
أول الفروقات:
قامت التنظيمات النقابية فى السودان منذ نشأتها الأولى على أسس ديمقراطية. فالتنظيم الداخلى للنقابات يحكمه مبدأ الانتخاب الحر، من القواعد إلى الجمعية العمومية إلى المكتب التنفيذي، وتتميز بتعدد منابر اتخاذ القرار ونظامٍ للتفويض يُخضِعُ القيادات للمساءلة أمام قواعد العضوية، والتى تحتفظ بالحق فى استدعاء ومحاسبة أىٍ من القيادات. (وحتى قانون النقابات الذي صدر في عهد نظام الحزب الواحد، الاتحاد الاشتراكي، إلا انه سمح للنقابات بانتخابات حرة نزيهه، كما اسهم التجمع نفسه بفعالية، بعد إسقاط النظام، في إعداد مسودة قانون النقابات الذي أجازته الحكومة المنتخبة في 1987، والذي عطلته سلطة الإنقاذ، بينما ما زال الجدل محتدماً منذ سقوط النظام في أبريل 2019 إلى الآن حول قانون النقابات الذي تتم على أساسه إعادة هيكلة النقابات، وحتى مسودة القانون التي أعدتها وزارة العمل لم يتم التوافق عليها حتى هذه اللحظة. في رأيي، أن أي قانوني يحكم العمل النقابي ينبغي أن يخضع لنقاش واسع تشارك فيه قواعد النقابات، فهم أصحاب المصلحة الحقيقية.
الفرق الثاني:
في مارس/أبريل 1985، كان هناك توافقٌ بين كل التيارات السياسية التي تنتمي إليها عضوية النقابة، وغالب القواعد والقيادات النقابية غير المسيسة (وهي الغالبية العظمى)، وكذلك على مستوى التجمع النقابي الذي ظل مُتماسكاً ومُوحداً حتى نهاية الفترة الانتقالية، بالعكس لما وقع من انشقاق في تجمع المهنيين إبان انتقال ديسمبر، حيث أصبح قسماً منه في مجلس شركاء الحكم، بينما اختار قسمٌ آخر أن يكون في موقع المعارضة. وكذلك، مكنت الطبيعة الديمقراطية للمؤسسة النقابية مشاركة كافة التيارات التي تنتسب لها العضوية في أجهزة النقابة بقدر ما تناله من أصوات. (مثال الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم + رئاسة النقابة العامة لأطباء السودان والنقابة العامة للمهندسين). إن انقسام تجمع المهنيين أمرٌ مؤسف ومُضر بوحدة ومستقبل الحركة النقابية المهنية، وهو نوع ٌمن الانقسام لم تشهده الحركة من قبل مع عدم وجود آليات ديمقراطيه لمخاطبته، مما يوجب التصدي له من القواعد والقيادات النقابية.
الفرق الثالث:
المجتمع السياسي الذي كان سائداً في 1985 (وقبلها في 1964) يختلف تماماً عن المشهد السياسي الذي أعقب ثورة ديسمبر، فقد كان هناك توافق بين التجمع النقابي والأحزاب السياسية على مؤسسات الإنتقال بعد التوقيع على ميثاق الانتفاضة، وفي العلاقة بين العسكريين في المجلس العسكري الانتقالي (ما عدا بعض الملاسنات خاصة حول قانون الانتخابات فيما يلي دوائر القوى الحديثة أو الخريجين)، وذلك في مقابل التشاكس والتوتر الذي يسم هذه العلاقة خلال فترة الانتقال الحالية،وأشار كمير الي الحزبين الكبيرين تبدلت وضعيتهما كما كانا في أكتوبر أو أبريل بل انقسم كُل منهما على نفسه إلى أكثر من فصيل، إضافة إلى تعدد الأحزاب وتناسلها، وظهور الحركات المسلحة في المشهد السياسي بعد توقيع اتفاق سلام جوبا. ومن ناحية، أخري، تعقدت مؤسسات الانتقال، إذ لم يكن هنالك مجلس سيادة ولا مجرد التفكير في مجلس تشريعي، ولم يكن هناك مجلس لشركاء الحكم (غير تحالف جبهة الهيئات مع الأحزاب في أكتوبر، وتحالف التجمع النقابي معها في التجمع الوطني لإنقاذ الوطن، وهي تحالفات سياسية وليست دستورية)، أما تجمع المهنيين، بالرغم من دوره التنسيقي المشهود، إلا أن قوى الحرية والتغيير مظلة واسعه وفضفاضة بين تكتلات تحالفية مختلفة ومتعددة، لم تترك له مساحة ليكون له نفوذاً مُستقلاً في الحكومة (الترشيحات لمجلس الوزراء الانتقالي في 1985، كانت بيد التجمع النقابي بالتشاور مع الأحزاب، وذلك بغض النظر عن النتيجة النهائية التي خيبت التوقعات).
الفرق الرابع:
العامل الحاسم الذى ساعد النقابات فى تعزيز سطوتها الاقتصادية والسياسية يكمُنُ فى الموقع العضوى والاستراتيجى الذى كانت تحتله فى قلب المؤسسات الانتاجية والخدمية، التي كانت تملكها وتديرها الدولة. فقد نشأت الحركة العمالية واشتد عودها في ظل عهد هيمنة القطاع العام على الاقتصاد، حتى أقدمَّ نظام الإنقاذ على إحداثِ تحولات رئيسة على صعيد البنيات والتوجهات الاقتصادية وسياسات ممنهجة، ولها دوافع سياسية ضيقة لصالح القطاع الخاص، خاصة القطاع الطُفيلي. فلم يعد هناك وجودٌ لسكك حديد السودان والنقل الميكانيكي والمخازن والمهمات، ومشروع الجزيرة ومشاريع النيلين الأزرق والأبيض والشمالية، فجفت مصادر سطوة اتحادات العمال والمزارعين. وهذا تحولٌ جدير بأن ينظم حواراً جاداً حول مآلاته على مستقبل الحركة العمالية(يتبع).