الثلاثاء, يونيو 17, 2025
مقالات

السودان بين مطرقة الإسلاميين وسندان الغرب.. وهم الاستقلال وحدود التبعية

بقلم: سنية اشقر 

في مشهد عبثي يختلط فيه الدم بالنفط، والعقيدة بالمصالح، تبدو بلادنا اليوم ممزقة بين مشروعين لا يقل أحدهما خطورة عن الآخر: سطوة الإسلاميين بماضيهم الذي يقطر قمعًا وفسادًا، ومشروع ليبرالي غربي لا يقدم سوى الوصاية والعقوبات باسم “العدالة الدولية” و”حقوق الإنسان”، بينما هو ذاته من زرع بذور الخراب التي نحصدها الآن. فالغرب، الذي ينتج الأسلحة الكيماوية المحرّمة، هو نفسه من يفرض العقوبات حين تُستخدم تلك الأسلحة في بلادنا. هو من أطلق العنان للمسخ السياسي المسمّى “الإسلام السياسي” في لحظة الحرب الباردة، ثم عاد ليلفظه كأداة انتهى عمرها، أو يُعيد إنتاجها بنسخة أكثر نعومة ولكن بذات الوظيفة: ضمان التبعية والهيمنة، لا أكثر.

المفارقة أن الغرب الذي يدّعي محاربة الإسلاميين اليوم، هو من دعمهم بالأمس، حين مثلوا حائط صد أمام المشروع القومي أو الوطني. والآن، وبعد أن فشل المدنيون ــ أو أُفشلوا بفعل التدخلات والإملاءات والتضييق الاقتصادي ــ صار الإسلاميون، مرة أخرى، يُطرحون كبديل ممكن. لا لأنهم مؤمنون بمشروع تحرري أو نهضوي، بل لأنهم أكثر دراية بلغة السوق، وأكفأ في عقد الصفقات، والأهم أنهم عرفوا كيف يلبسون عباءة “الواقعية السياسية” التي تريح الغرب من صداع الشعارات.

هكذا تُدار بلادنا: لا كدولة ذات سيادة، بل كمزرعة تتقاسمها المصالح. مشاريع الإسلاميين والليبراليين ليست متعارضة من حيث الجوهر؛ كلاهما أدوات في يد النظام العالمي الرأسمالي، تختلف الأقنعة وتتوحد الوظيفة. الإسلاميون حكموا ثلاثين عامًا، لم يقتربوا خلالها من العدالة الاجتماعية، ولا من إنهاء التبعية، بل عمّقوها باسم “التمكين”. والليبراليون الذين جاءوا بعد الثورة، لم يتجاوزوا مربع الإملاءات الخارجية، وفشلوا في بناء تحالف اجتماعي يعزز الديمقراطية من أسفل.

فهل هناك مخرج من هذه الدوامة؟
نعم، لكن بشروط قاسية ووضوح جذري في الرؤية:

▪. إيقاف الحرب لا يتم بالحياد الزائف، بل بموقف سياسي واضح يعزل أمراء الحرب من كل الأطراف، ويعيد تعريف السلطة على أساس إرادة شعبية لا تسوية إقليمية أو صفقة دولية.

▪. إشراك الفاعلين في الحل لا يكون بإرضاء مراكز النفوذ، بل بتوسيع قاعدة القوى الاجتماعية المشاركة، من لجان المقاومة إلى النقابات وقوى الهامش والمزارعين والعمال، الذين هم الضحية الحقيقية للحرب.

▪. تفكيك مشروع الإسلام السياسي والنيوليبرالية معًا، لا يتم بشعار “لا عسكر لا أحزاب”، بل ببناء جبهة وطنية ديمقراطية جديدة تضع قضية العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني في قلب مشروعها.

▪. التدخلات الدولية والإقليمية لا يمكن تجاهلها، لكن يمكن تحجيمها بتحالفات إقليمية بديلة ومقاومة مجتمعية مدنية فاعلة، لا تنتظر الإذن من العواصم، بل تفرض شروطها على الأرض.

في النهاية، لا خلاص لنا ما لم نطرح السؤال الاهم لمن هذه الدولة؟ من يحكم؟ ولمصلحة من؟ لا الإسلاميون بديل، ولا الغرب وصي. بل القوى الحية في المجتمع هي وحدها القادرة على خلق مشروع وطني جديد، يقطع مع الاستبداد والتبعية، ويضع نهاية لهذه المهزلة التي تُدار فيها بلادنا كمستعمرة بلبوس ديني حينًا، وبشعارات حداثوية حينًا آخر.

فلتكن الحرب فرصة أخيرة لإعادة بناء الدولة لا على أنقاض الثورة، بل على أساس مشروع تحرري يضع الإنسان في مركز السياسة، لا السوق ولا العقيدة.

مايو/٢٠٢٥م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *