الجمعة, يونيو 13, 2025
تقاريرسياسة

كردفان تحترق.. نساء يهربن مشيا على الأقدام لشهر كامل

تقرير: نصر الدين عبد القادر

في قرية “أرقد فايق” التي تقع على بعد بضعة كيلومترات من مدينة الدبيبات حاضرة محلية الدبيبات، بولاية جنوب كردفان، عددها بيوتها سبعة، الآن ليس بها سوى الرماد، وبعض أعمدة خشبية كانت تحمل سقف بيت من القش، مع انعدام تام لملامح الحياة، بعد نهب كل شيء من قبل الشفشافة: الطعام، والعيش المطمور في باطن الأرض للتخزين، حتى الدجاج لم ينجو، حتى الصمت تم أخذه من خلال أنين الأطفال وأوجاعهم من الجوع والمرض.

تقول سيدة أربعينية نزحت إلى أبو زبد: “أخذوا كل شيء، حتى الدجاج”، وتضيف: وهذا هو ما جعل الآلاف من السكان يفرون، فالحياة قاسية، لكننا نعيشها برضا، نذهب على ظهر الدواب مسافات بعيدة لإحضار باقتين من الماء للشرب وطهي الطعام، لكنهم لم يتركوا لنا شيئا، حتى العناقريب والبنابر، والترابيز، بل أكواب الشاي، فخرجنا نازحين الآن نستظل بالأشجار.
في قصص العائلات الهاربة تتكرر مشاهد النهب، الاغتصاب، الخطف، “أخذوا ابن أخي برفقة آخرين وطلبوا أموالا مقابل إطلاق سراحهم” تضيف السيدة الأربعينية، وهم لا يملكون من حطام الدنيا الزائل سوى عجزهم وصمتهم، وانقطاع الأمل لديهم في حياة كريمة وسط حرب ضروس. وكثيرون نزحوا إلى مدينة الأبيض مشيًا على الأقدام، بلا زاد، فقط على بصيص أمل بالنجاة. تقول ذات السيدة إن جارتها قتلوا زوجها أمام أطفالها الصغار.

السقوط مرتان..

مدينة الدبيبات سقطت تحت أيدي قوات الدعم السريع بعد أشهر من اندلاع في الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023م، واستمر الحال على نحو عامين، تأقلم الناس مع الأوضاع، ويقول شهود عيان إنّ تكوين الإدارة المدنية من قبل قوات الدعم السريع، وتعاونها مع الإدارة الأهلية ساهم في استقرار نسبي، إلا من قرارات عطلت الاقتصاد، بعد منع تصدير المحاصيل الزراعية والماشية إلى مناطق سيطرة الجيش بحسب وصف القرار، ومعلوم أنّ السواد الأعظم من السكان هم مزارعون أو رعاة، ويعتمدون على هذين المصدرين في تسيير شئون حياتهم، إضافة إلى فرض جبايات على وارد البضائع والمواد التموينية، مما أثقل كاهل المواطن بغلاء فاحش في الأسعار.

بعد تمدد الجيش وسيطرته على مدينتي أم روابة والرهد، ذهبت بقية قوات الدعم السريع إلى مدينة الدبيبات، مما خلق حالة من الضغط على موارد المنطقة على قلتها، بحسب شهود عيان، ومن قبلها كان نزوح سكان المناطق المحيطة بمدينة الدلنج ممن يوصفون بأنهم حواضن قبلية لقوات الدعم السريع نزحوا إلى الدبيبات، بعد فشل هجوم الدعم السريع على تلك المدينة الاستراتيجية بولاية جنوب كردفان، وزادوا من حدة الضغط على المنطقة مرة أخرى بحسب شهود عيان.

بعد دخول استعادة المدينة من قبل قوات الجيش، والقوات المساندة لها قبل نحو أسبوعين، احتفل المواطنون بالنصر، وظهروا في فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي يهتفون “شعبٌ واحد/ جيشٌ واحد” وهم لا يعلمون أن ذلك الانتصار أقصر من طرفة العين، وسرعان ما انسحب الجيش مرة أخرى لتسقط المدينة للمرة الثانية، في أيدي قوات الدعم السريع التي عادت بحملة دفتردارية انتقامية من جميع الذين ظهروا محتفلين بدخول الجيش.

وبحسب روايات شهود عيان أنّ القوات لاحقت حتى النازحين في الطرقات بحثا عن أي شخص كان محتفلا مع الجيش، وتريه مقطع الفيديو، ثم يمطرونه بوابل من الرصاص أمام أسرته، وأهله، يقول أحد الناجين.
تروي بعض النساء اللواتي يعشن الآن في معسكرات النزوح بعد رحلة طويلة من المعاناة بحثا عن مأمن، عن فظائع عايشنها، وحالات اغتصاب، وأشياء أخرى صمتنَ عنها، بينما يروي شاهد عيان أن قوات الدعم السريع كانت تعتقل الرجال في حاويات، مع ارتفاع درجات الحرارة التي تتجاوز الأربعين درجة، مما أدى إلى وفيات داخل تلك المعتقلات.

مطاردة الأوجاع للنازحين..

وفي مدينة الأبيض، حاضرة ولاية شمال كردفان، حيث نزح الآلاف إلى هناك، يعيشون حياة موغلة في التعاسة، فالمدينة نفسها محاصرة منذ أشهر بعيدة، وتتعرض لقصف بالمدفعية الثقيلة والمسيرات، إضافة إلى تفشي الأمراض، واكتظاظ دور الإيواء بالنازحين، وثمة أسر كثيرة تنام في العراء، وتعتمد على التكايا، وأسر أخرى أُستُضيفت من قبل أهاليها، فالبيت الذي كان يتسع لخمسة أشخاص، صار يسكنه أكثر من خمسين شخصا، في ظروف أمنية واقتصادية بالغة التعقيد.

يروي أفراد أسرة نزحت من مدينة الدبيبات إلى الأبيض عن الهلع الذي يعيشه السكان بالقصف المتكرر، وبعد قصف مستشفى الضمان وخروجه من دائرة الخدمة، دخلت المدينة في وضع صحي حرج، خاصة بعد ظهور حالات من الكوليرا، وهي مستمرة في ازدياد يومي.

هنا تجدر الإشارة إلى أنّ مدينة الأبيض خلال الشهر الماضي استقبلت أيضا آلاف النازحين من مدينتي النهود والخوي بولاية غرب كردفان بعد سيطرة قوات الدعم السريع عليها، وهو ما أشرنا إليه في تقرير سابق. أما الذين لا حيلة لهم في النزوح، فهناك يعيشون حياة بالغة القسوة، حيث تنعدم المياه والكهرباء، وفوق ذلك هم منقطعون عن العالم بسبب انقطاع الاتصال والإنترنت.

أسر تم محوها..

خلال العامين الماضيين، تم حصر الوفيات عبر القصف أو القتل المباشر (337) حالة، وهذا الحصر تم من قبل المواطنين أنفسهم، وبعد محاولة عودة الجيش لفرض سيطرته على الحمادي والدبيبات استخدم سلاح الطيران، حيث تم قصف السوق، الذين كان ممتلئا ببراميل البنزين بعد توقف محطات الوقود، مما أدى إلى وفاة 72 شخصا بينهم نساء وأطفال وكبار سن. “وهناك أسر تم محوها بالكامل، أسرتان في الحي الشمالي للمدينة، وأسرة في الحي الشرقي، وهي أسرة رئيس وزراء حكومة الفترة الانتقالية د. عبد الله حمدوك”. يقول أحد أقارب هذه الأسر.

“خرجنا بحثا عن مكان لا نسمع فيه أصوات الرصاص، فقلوبنا لم تعد قادرة” تقول نمارق لـ “مدنية نيوز” بعد رحلة نزوح طويلة حتى وصلت إلى منطقة آمنة، وتضيف: أنهم خرجوا قبل دخول الجيش بأيام بسبب القصف المدفعي، وهو ما جعل قوات الدعم السريع تشن انتقاما كبيرا على منازل المواطنين يسألون عن المال والذهب، ومن لم يجدوا عنده مالا يقومون بضربه، فخرجنا إلى مدينة الأبيض في رحلة شاقة.

عامان بلا تعليم..

يقول أحمد الذي كان يتهيأ لامتحان الشهادة الثانوية، إنه فقط يريد أن يعيش الآن، أما التعليم، فخرج من نفسه، فقط يريد أن يتنفس بأمان في وطن لم يعد آمنًا في كل شبر من أرضه، أو يموت. ومثل أحمد آلاف الأطفال الذين حرموا من التعليم لأكثر من عامين، فمن يتحمل مسئولية كل هذه الماساة.
طلبت إفادة من أحد الزملاء الصحفيين، كانت أسرته عالقة هناك، والاتصال بينهم منقطع لشهر كامل، حتى تمكنت من الخروج أخيرا.. فكانت إجابته في جملة واحدة، لكنها تحمل مأساة الكون، وهو يقول: “لم يتركوا لي ما أقول”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *