تعديل الوثيقة الدستورية.. الشيطان في التفاصيل .
بقلم: لمياء الجيلي
المشهد السياس والجدل الدائر حول إمكانية أو عدم إمكانية تعديل الوثيقة الدستورية، ومن يحق له القيام بذلك، والآلية التي يتم بها هذا التعديل، يعدينا الي مواقف سابقة قبل توقيع الاعلان السياسي والوثيقة الدستورية في العام 2019 إبان التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي وقوي الحرية والتغيير. ومن تلك المواقف اعتراض الجبهة الثورية على عدم تمثيلها في التفاوض وأن قضايا المناطق المهمشة والسلام العادل لم تجد الاهتمام المطلوب لدي المفاوضين، إضافة الي اتهامها للجنة التفاوض باختطاف المشهد التفاوضى باسم قوي الحرية والتغيير. كما يعيد الى الأذهان أحداث لازال يكتنفها كثير من الغموض والتساؤلات التي تبحث عن أجوبة شافية وافية، منها تساؤلات مشروعة حول ما تم من تعديلات سابقة في الوثيقة الدستورية ففي التاسع عشر من سبتمبر الماضي كشف وزير العدل دكتور نصر الدين عبد الباري عن وجود نسختين من الوثيقة الدستورية نسخة (70) مادة ونسخة أخرى (78) مادة والي الآن الشعب السوداني لا يعرف من وراء ذلك؟ ولماذا تمت إضافة مواد وحذفت أخري؟ ولمصلحة من تم التعديل؟ ولماذا تم بهذه الطريقة الغامضة؟ كما يعيد هذا الجدل تساؤلات تكررت عدة مرات ولم تجد إجابات مقنعة تكفينا مشقة وحيرة ورهق التفكير المضنى والقلق.
ومن هذه التساؤلات التي تحتاج لإجابات شافية ووافية الأسباب التي أدت الي عدم الالتزام بتكوين المجلس التشريعي في الموعد المحدد والمتفق عليه بين كل الأطراف؟ ونفس الأمر ينطبق على مفوضية السلام باعتبارها واحدة من المفوضيات الهامة والتي من مهامها القيام بمتابعة مفاوضات السلام؟ ولمصحة من تأخر هذا التكوين؟ فقد نصت الوثيقة الدستورية الفصل الخامس عشر المادة 68 (2) على “الأولوية للعمل على إتمام اتفاق السلام الشامل في مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ التوقيع على الاتفاق، على أن تبدأ خلال شهر من تاريخ تكوين مفوضية السلام “. وتم ضرب عرض الحائط بهذه المادة من ناحية زمنية ومؤسسية والمتمثلة في تكوين مفوضية السلام، والتي تولي مهامها المجلس الأعلى للسلام، رغم مخالفة ذلك للوثيقة الدستورية.
الارتباك والإرباك السياسي الحالي نتاج طبيعي للعبث بإرادة الجماهير وبقضايا الوطن وتضارب مصالح الشعب مع مصالح قوي دولية وإقليمية وقوي داخلية تدعمها طبقات طفيلية سيطرت على شرايين الاقتصاد ومصالح العباد، مستعدة لبذل الغالي والنفيس للحفاظ على هذه المصالح وحمايتها، وهي الآن تعمل بكل ما أوتيت من قوة للضغط على المواطن واستنزافه في تفاصيل حياته اليومية والتضييق عليه بقدر المستطاع. فكل ما يحدث من صراع وتناقضات في المشهد السياسي الماثل أمامنا يعرقل ويؤخر مسيرة التحول الديمقراطي وبناء دولة المؤسسات والقانون وتحقيق شعارات ثورة ديسمبر المجيدة في الحرية والسلام والعدالة.
وبالعودة للجدل حول آلية تعديل الوثيقة الدستورية لتضمينها اتفاقية السلام الموقعة بين الجبهة الثورية والحكومة الانتقالية، خاصة ان الوثيقة الدستورية حددت كيفية تعديلها في المادة (78) والتي نصت على (لا يجوز تعديل أو إلغاء هذه الوثيقة الدستورية إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي)، علي الحكومة الانتقالية تجنباً لحدوث أزمة دستورية أن تشرع في تكوين المجلس التشريعي الانتقالي بأسرع ما يمكن وفقاً للاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية ومعالجة الخلل الماثل بسبب غياب الدور الرقابي والتشريعي وانفراد مجلسي الوزراء والسيادة بالمهام التشريعية والدستورية. فقد نصت الوثيقة الدستورية الفصل السابع المادة (24-4) على “يشكل المجلس التشريعي الانتقالي ويباشر مهامه في فترة لا تتجاوز تسعين يوماً من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية”.
وعلى الجبهة الثورية الانتظار الي قيام هذا المجلس. بل الانتظار الي حين اكمال التفاوض مع قوي الكفاح المسلح الأخرى، ليتم تعديل الوثيقة بواسطة المجلس التشريعي الانتقالي بعد توقيع اتفاقيات سلام مع كل الأطراف للوصول الي سلام شامل مستدام وغير منقوص. خاصة وان اتفاق السلام الذي تم توقيعه في الثالث من أكتوبر الجاري، لم يجد التوافق التام خاصة مسارات الشمال والوسط والشرق. وكذلك وجد الرفض من بعض أبناء مناطق النزاعات والمناطق المتأثرة بالحرب، وترجم هذا الرفض في شكل تظاهرات احتجاجية شهدتها معسكرات النازحين وبعض المدن في دارفور، منددين بهذا الاتفاق الذي يرون أنه لا يلبي طموحاتهم ولا يعبر عنهم باعتبارهم أصحاب المصلحة وأكثر المتضررين من الصراع الدائر في الإقليم، وأنهم لم يشركوا أو يشاركوا في النقاش حول القضايا التي تخصهم. كما تمت انتقادات حادة من قوي سياسية ومن مراقبين للشأن السياسي في البلاد لعدد من بنود الاتفاقية، وعلى ما اتبعته من نهج تفاوضي شبيه بنهج النظام البائد المبني علي قسمة السطلة والثروة، ولم تركز علي جذور الأزمة السودانية الشاملة. كما يشكل غياب حركة تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور والحركة الشعبية القائد عبد العزيز الحلو عن هذه المفاوضات وما توصلت اليه من اتفاقات أكبر نقطة ضعف باعتبار ثقلهما الجماهيري ووجودهم العسكري في المناطق التي يسيطرون عليها.
الجدل حول تعديل الوثيقة الدستورية لإدراج نصوص اتفاقية السلام أول شياطين التفاصيل وليس أخرها، وكل هذا كما ذكرت نتاج لخلل بنيوي في مفاوضات السلام وفي الكيفية التي تمت بها، ومن المتوقع أن يطفو على سطح التنفيذ كثير من المسائل التي قد لا يجدي معها مشرط جراح ولا دواء عطار.