الأربعاء, نوفمبر 20, 2024
مقالات

حراكُ التأسيس لسُودانٍ جديد

بقلم: خالد فضل
(1)
يمكن قراءة الحراك العام في السودان من خلال عدة ثنائيات، بيد أن التحليل يشير إلى ثنائية تاريخية، هي ثنائية الماضي والمستقبل، أي أنّ الصراع السياسي في مجمله يمكن ردّه مباشرة إلى هاتين القوتين، قوى صاعدة تنشد مستقبل مغاير، وقوى مشدودة إلى الماضي، قوى الماضي ؛ وهي صاخبة الإمتياز التاريخي، بما حازته من إرث الدولة الوطنية عقب الاستقلال، بل أبعد من ذلك، منذ ميلاد الدويلات الإسلامية في البلاد واقترانها المباشر بمحاولات التعريب المستمرة للسودانيين، وخلق هوية مرتبطة بالمشرق العربي، مع تجاهل متعمد للجذر الإفريقي، وبازدياد الإرتباط الإسلامي مقابل فكّ الإرتباط بالأديان والمعتقدات الأخرى سواء السماوية منها أو الروحانية الأفريقانية . وعند قيام السلطة الوطنية بعد استقلال البلاد عام 1956م، دان النفوذ بصورة تلقائية للعناصر ذات التوجهات العروبية الإسلامية، وفي سياق هذه الهيمنة على معظم مقاليد السلطات، والمجالات الثقافية والإقتصادية والإعلامية والإجتماعية، صار المتاح لتعدديات السودان الأخرى فرصة وحيدة لنيل بعض تلك الإمتيازات، هي فرصة التماهي مع القوة النافذة والمهيمنة، وقد تجلى ذلك الأمر بصورة واضحة من خلال اختلاق الأنساب لدى معظم السودانيين بما في ذلك مجموعات يبدو الانتحال أوضح من الشمس في دعاويها الإسلاموعروبية تلك !!
(2)
لقد أدّت تلك الوضعية إلى خلق توتر مستمر في مسيرة بناء الدولة الوطنية، إذ ظلت باستمرار تبدو مائلة الأكتاف لم تستطع السير المستقيم، وبدت متعثرة أكثر من كونها متطامنة الخطو، وظلّ معظم السودانيين يتوقون إلى السنوات الماضية من حياتهم بأكثر من تطلعهم لمقبل الأيام .هذه أوضاع مقلوبة ومأزومة بكل تأكيد، وعاشت أجيال متتالية من السودانيين بين معقوفتي الحرب والتدهور في أوجه الحياة المختلفة، وغاب بالتالي المشروع الوطني الكبير المتفق عليه بين أوسع قاعدة جماهيرية في البلاد، وظلت البلاد ترزح في متلازمة الفقر والجهل والمرض لم تفارقها إلاّ لتعود من جديد، ومع ذلك ظلّ التغني بالثراء في الموارد الطبيعية هو اللحن المفضّل لكل سوداني/ة، وبدون التوقف عند نقطة المفارقة بين ما نتغنى به من ثراء وما نكابده من بلواء لن تنصلح حال على كل حال ما لم نتجاوز أسبابها .، كما أنّ مرور التجارب دون استخلاص العبر منها يعتبر ضربا من البلاهة، ولعل أكبر تلك التجارب هي انفصال جنوب السودان مكونا دولته المستقلة ؛ والتي من عجب باتت هي الوسيط الأساسي لحل الصراعات السودانية التاريخية، ولعل فهم الوسيط الجنوبي ومعايشته لجذور وأسباب النزاعات في سودانه السابق تجعله بالفعل وسيطا ممتازا، وأتصور أنّ توت قلواك وضيو مطوك عندما يسمعان من بعض موفدي الحكومة لبعض العبارات، يكادان يصرخان في وجه القائل،ألم تتعلموا شيئا !!
(3)
الفرصة الآن متاحة أمام السودانيين لإنجاز ما لم يتم إنجازه منذ عقول، هناك عدد من الفرضيات تعزز ما أزعمه في هذا السياق، منها، بروز قوى شبابية جديدة، تمتلك قدرا عاليا من الوعي بالكون وما يحدث فيه من تطورات متلاحقة، على زمان شبابنا _ وجيلي في أواسط خمسينات العمر_ كنا ننتظر ساعي البريد بفارق الصبر لنعرف أخبار أهلنا ونحن عنهم بعاد، الآن يتم نشر الخبر قبل وقوعه !! غصبا عن كل مكابر زاد نطاق المعرفة والتجربة لدى الجيل الصاعد وحتى الأطفال بمئات المرات عما كان عليه الوضع قبل عقدين أو ثلاثة، هذه وضعية تفرض ممارسة مغايرة ولابدّ, وإلاّ طوحت بالمكابرين عجلة التاريخ المتسارعة الخطو نحو المستقبل، لذا تجدني دوما أقرأ حراك الشباب بنوع من الإعجاب والتقدير، وأعتقد أنّ العبارات المستهلكة عن (قلة الأدب) ما عادت تصلح الآن، كما أنّ أي محاولة للإستسهال أو الفهلوة والإستهبال السياسي صارت من مثيرات السخرية على من يمارسها بأكثر من كونها أداة لتمرير أكذوبة . ولعل تبني الثوار لشعارات وحتى أدبيات السودان الجديد مما يعضد من فرضية تمخض الحراك الراهن عن بزوغ فجر ذلك الميلاد رغم الملاواة التي تظهر أحيانا من هذا الطرف أو ذاك، نقطة ثانية، هي طبيعة السلطة المدنية الإنتقالية، فهي في معظم مكونها مما تنشد بناء السودان الجديد ورد المظالم التاريخية، ضف لذلك أنّ قوى الثورة في غالبها تسير على ذات سكة التغيير الشامل والجذري لما هو سائد، وتتوق حتما لبناء وطني جديد، وهنا ننوه للجان المقاومة، والقوى النسوية بصورة خاصة، إضافة إلى بعض التظيمات السياسية التقدمية، وهي قوى المستقبل دون أدنى شك، وأي تحالف جبهوي عريض سيؤدي إلى تقويض ما اهترأ من منظومة السودان القديم، ولكن يظل الشرط اللازم لإكمال هذه المسيرة المتجهة صوب المستقبل أن تؤكد على سلمية ممارستها، وتقدم نموذجا في طول النفس، فالتغيير الإجتماعي مهمة شاقة وخطواتها بطيئة . ولكن المستقبل للتغيير، وللسودان الجديد الذي نأمل أن يولد معافى، متخلصا من تبعات الغبن ونزعات الإنتقام، وصنوف الإنتصار للذاتي على حساب الموضوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *