حقوق الإنسان في السودان بين الانتهاكات الممنهجة و”الاستهتار الخبيث”
نيروبي: مدنية نيوز
منذ أبريل من العام الماضي يخوض الجيش السوداني ومليشيات الدعم السريع صراعا عسكريا تسبب في تدمير كارثي للبلاد، وسقط على إثره عشرات الالاف من القتلى والجرحى، وتشرد الملايين بين النزوح الداخلي واللجوء الى دول الجوار، ونتيجة لاستمرار الصراع العسكري وقعت العديد من الجرائم من قبل طرفي الصراع وتفاقمت انتهاكات حقوق الانسان، وسط تنامي خطاب الكراهية وجرائم التطهير العرقي والاستهداف الممنج للقوى المدنية والثورية والناشطين والسياسيين والصحفيين، وطالت انتهاكات حقوق الانسان النساء والاطفال وسط تحذيرات المنظمات المحلية والدولية.
صراع بلا طائل
وفي ظل تعنت طرفي الحرب في التفاوض وانهاء معاناة المواطنين، تستمر قوات الدعم السريع في ارتكاب الفظائع وانتهاك حقوق الانسان في مناطق سيطرها، بجانب وقوع انتهاكات متعددة بحق المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، من اعتقال وتعذيب واتهام بالانتماء لمليشيات الدعم السريع، في وقت تندد منظمات حقوق الانسان بأفعال طرفي الحرب، وتطالبهما بوقف الانتهاكات وانهاء الحرب.
وكان مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، قال في تقرير لمجلس حقوق الانسان الدورة الـ55، إن القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وكذلك القوات التابعة لها، تخوض صراعًا عنيفًا عبثيًا لا طائلة منه. واضاف: “لقد قتلوا الآلاف، من دون أي شعور بالذنب أو الندم على ما يبدو.. وبثّوا جوًّا من الرعب المطلق، ما أجبر الملايين على الفرار.. لقد تركوا الناس الذين لم يتمكنوا من الفرار أو لم يرغبوا فيه في مهبّ المعاناة والمشقّات، كما دمروا الخدمات الطبية ومنعوا وصول المساعدات الإنسانية”.
الاستهتار الخبيث
وأوضح المفوض ان الطرفين تصرفوا باستمرار في ظلّ إفلات تام من العقاب وانعدام واضح للمساءلة عن الانتهاكات المتعددة التي ارتُكبت، واستمروا في تعطيل أي محادثات ومفاوضات من شأنها أن تحقّق السلام والأمان والكرامة التي تشتد حاجة شعب السودان إليها.
وسلط التقرير الذي قدم للمجس الضوء على مجموعة من الانتهاكات والتجاوزات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، التي ارتكبتها الأطراف المتحاربة في السودان في الفترة الممتدّة بين نيسان/ أبريل وكانون الأول/ ديسمبر 2023. كما أورد تفاصيل الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني التي تستوجب التحقيق والمساءلة، وقد يرقى العديد منها إلى جرائم حرب أو جرائم وحشية. وتابع المفوض: “لا تزال الأزمة في السودان تتسم حتّى بالاستهتار الخبيث بحياة البشر”.
وأشار التقرير الأممي الى انه في غضون أحد عشر شهرًا، قُتل ما لا يقل عن 14,600 شخص وجرح 26,000 آخرين. ولا شك في أنّ الأرقام الفعلية أعلى من ذلك بكثير. وتشمل الحصيلة آلاف المدنيين، بمن فيهم العديد من الأطفال والنساء. كما فقد العديد من العاملين في المجال الإنساني والصحي حياتهم أثناء مساعدتهم المحتاجين تحت النيران والقصف. وقد تم توثيق التكتيكات العدوانية توثيقًا جيدًا. والعديد من الهجمات العشوائية التي ضربت المناطق والمباني السكنية. واستخدام الأسلحة ذات التأثير الواسع النطاق، حتى في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، التي يتمّ إطلاقها من الطائرات المقاتلة والطائرات بدون طيار والدبابات.
أنماط الجرائم
ومن جانبها قالت المبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الافريقي (صيحة) في تقرير سابق إنه منذ اليوم الأول لاندلاع حرب ١٥ أبريل في السودان، ظهرت أنماط مختلفة لجرائم العنف الجنسي، معظمها ارتبطت بمليشيا الدعم السريع ومناطق سيطرتهم. وهذه الجرائم هي جرائم ممنهجة مرتبطة بتاريخ هذه المليشيا وسلوكها التاريخي في إقليم دارفور منذ العام ٢٠٠٣.
وأشارت صيحة الى انها رصدت ٢٤٤ حالة لجرائم العنف الجنسي منذ اندلاع الحرب في السودان؛ وقد لاحظت عددًا من الأنماط التي تتبعها مليشيا الدعم السريع في ارتكابهم لهذه الجرائم، وهي كما يلي:
– النمط الأول: نمط مرتبط بمنهج الغنائم، وهو نمط شائع نسبة لأن هذه المليشيا يحتوي تكوينها الأساسيّ على مجموعة من النهابة، هدفهم ودوافعهم الأساسية لاقتحام القرى والمدن هو نهب الممتلكات العامة والخاصة، وطرد السكان من منازلهم ومن أراضيهم لاحتلالها. ذهنية الغنيمة والتي هيّ محرّك أساسي لهذه المليشيا تدفعهم لاختطاف النساء والفتيات، حيث تمّ رصد وتوثيق حالات لبيع الفتيات كجزء من غنائم الحرب. – النمط الثاني، نمط مرتبط باختطاف الضحايا وإخفائهن واغتصابهن، وفي بعض الأحيان يقومون بإعادتهنّ لأسرهنّ مقابل فدية مالية، أو يقومون بالاحتفاظ بهنّ لاستخدامهنّ في أعمال مرتبطة بالسخرة الجنسية، والقيام بالأعمال المنزلية لأفراد المليشيا.
– النمط الثالث: بعد قيامهم باقتحام رقعة جغرافية معينة ونهب كل ما يمكن نهبه واحتلالهم للمنازل والأعيان المدنية ثم يصبح وجودهم أمرًا واقعًا وجزءًا من حياة السكان يقومون باستهداف منازل بعينها واغتصاب الفتيات والنساء؛ بغرض الانتقام أو الإذلال، أو كوسيلة لفرض السلطة. يمكن ربط تكرار هذه الأنماط بجريمة اغتصاب إحدى الفتيات في جزيرة توتي، في الأسبوع الثاني من شهر إبريل. حيث قاموا باقتحام منزل الضحية واغتصابها جماعيًا داخل منزلها وأمام أفراد أسرتها بعد تهديدها ووضع السكين على عنقها.
حصار المدنيين
ونهت “صيحة” الى انه لاحقًا ووفقًا لبيان أصدرته غرف طوارىء توتي لم تكتفِ المليشيا بجريمة الاغتصاب فحسب، بل قامت بإطلاق النار في أول أيام عيد الفطر المبارك على المواطنين العزل داخل المسجد، الذين تجمعوا للتعبير عن سخطهم على جريمة الاغتصاب؛ ونتج عن ذلك إصابة سبعة أشخاص ووفاة أحد المواطنين.
ومنذ اندلاع الحرب، أصبحت جزيرة توتي مغلقة ومحاصرة تمامًا، حيث تفرض المليشيا قيودًا صارمة ومعقده على السكان تحد من حرية حركتهم وتمنعهم من مغادرة الجزيرة إلا باستخراج تصريح مسبب من قادة المليشيا.
ومع طول أمد الحصار تضاعفت معاناة سكان جزيرة توتي، وأخذت أشكالاً مختلفة، ظهرت في حرمان المواطنين/ات من تلقي المساعدات الإنسانية والخدمات الصحية، وإرغامهم على التعامل في كل مناحي الحياة اليومية وشراء حاجاتهم الأساسية من أفراد مليشيا الدعم السريع.
إيذاء المدنيين
وبعد استمرار المعارك ووصولها الى مدينة الفاشر بولاية شمال دافور المتبقية في يد الجيش، قالت مجموعة “محامو الطوارئ” الحقوقية، ان المعارك شهدت هجماتٍ عشوائية وقصفا مدفعيا تجاوز الحدود، مما يؤكد على عدم احترام الأطراف المتقاتلة لقواعد النزاع وحماية المدنيين، وهو أمر مستمر منذ بداية الحرب في 15 إبريل.
ونوهت المجموعة الحقوقية إلى أن المادة 51 من الإضافة الأولى لإتفاقية جنيف تنص على أنه يجب على الأطراف المتحاربة أن تتخذ الإجراءات اللازمة لتجنب إلحاق الأذى بالسكان المدنيين، وتعتبر إستخدام القوة المفرطة أو غير المتناسبة ضد المدنيين إنتهاكا لهذه المادة،وعلاوة على ذلك، تنص المادة 8 من البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 على حظر استهداف المدنيين واستخدامهم كدروع بشرية، كما يحظر بشكل قاطع التعرض للمدنيين والممتلكات المدنية بشكل مباشر أو غير مباشر.
وطالبت المجتمع الدولي بالتدخل لإجبار الأطراف المتحاربة على احترام قواعد حماية المدنيين في النزاعات المسلحة. وأضافت: “نذكر الأطراف المتصارعة بأن تلك الأفعال تتعارض مع القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية، وأن أيادي العدالة ستلاحق الجناة ولن يفلتوا من العقاب”.
هجمات الأحياء
وفي 11 أكتوبر الماضي، اعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارًا يقضي بإنشاء بعثة دولية مستقلة لتقصِّي الحقائق في السودان. وكُلِّفت هذه الآلية بالتحقيق وتحديد الحقائق والملابسات والأسباب الجذرية المتعلقة بجميع ما زُعم وقوعه من انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاكات القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك الانتهاكات التي ارتُكبت ضد اللاجئين، والجرائم المتصلة في سياق النزاع المسلح الجاري.
وتقول منظمة العفو الدولية، إن كثير من المدنيين وقعوا في مرمى النيران، حيث شنَّ أفراد القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، الذين يستخدمون في كثير من الأحيان أسلحة متفجَّرة ذات تأثير واسع المدى، هجماتٍ متكرِّرة داخل أحياء مكتظَّة بالسكان المدنيين وانطلاقًا منها. ونتيجة لذلك، قُتل أشخاص داخل منازلهم، أو وهم يجهدون في البحث عن الغذاء وغيره من الضروريات، بينما قُتل وأُصيب آخرون أثناء فرارهم من العنف وفي الأماكن التي قصدوها بحثًا عن الأمان. وفي معظم الحالات، كان من الصعب تحديد الطرف الذي أطلق الذخائر وقتل وأصاب المدنيين.
وأشارت العفو الدولية في تقرير سابق، الى أن النزاع المسلح، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها تسبب في خسائر فادحة بين المدنيين جراء الهجمات المتعمَّدة والعشوائية. وارتكبت جميع أطراف النزاع انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وتعرضت النساء والفتيات للعنف الجنسي المرتبط بالنزاع. وظلَّت ظاهرة الإفلات من العقاب في صميم الانتهاكات المتعلقة بالنزاع. وأصبح ملايين السكان في عداد النازحين داخليًا، بينما فرَّ حوالي 1.4 ملايين شخص إلى بلدان مجاورة، حيث يعيشون في ظروف مزرية.