صاحبة الجلالة فقدت عميدها.. وداعاً صاحب القلم الذهبي وملهم الصحفيين
بقلم: حسين سعد
فجع الشعب السوداني والوسط الصحفي والمجتمع المدني والقوى المدنية والنقابية والسياسية في فبراير ٢٠٢٤م بنبأ رحيل عميد الصحفيين السودانيين ورئيس تحرير صحيفة الأيام الاستاذ محجوب محمد صالح، حيث تكالبت علينا المصائب عقب الحرب العبثية التي قتلت وشردت السودانيين ومن بينهم استاذي ومعلمي استاذ محجوب برحيله زرفت الدمع السخين فقد كان الاستاذ حاضراً دائماً، مشاركاً أو قائداً، كاتباً ومناضلاً، في كل معارك الشعب والوطن، ومعارك الصحفيين ونقابتهم، منحازاً دائماً إلى الفقراء والمهمشين والمقهورين والمنتجين المزارعين والنساء والطلاب وعمال الموانئ، ومقاتلاً من أجل الديمقراطية والحريات الصحفية والنقابية، واستقلالية الصحافة، وضحى في سبيل ذلك بالكثير من حريتة وصحتة وعمله واغلقت صحيفة الأيام وتمت محاربتها بسلاح المصادرة والضرائب والبلاغات الكيدية وبالرغم من كل هذه الترسانة من المضايقات الا ان صحيفة الأيام كانت عصية على التركيع بفضل قيادة المحجوب الذي كان ثابتا وشجاعا وهادئا يبدد قلقنا وتوترنا برحيله لا أملك الا وان اردد كما قال شاعر الشعب محجوب شريف. يا والدا احبنا يامن وهبتنا ثباتك الأصيل إليك رغم أنف كل بندقية إليك الحب والسلام والتحية.
محطة صحيفة الأيام عمل من خلالها الكثير من الرموز الصحفية المنحازين للمهنة واخلاقها لكنني أرى بأنني أكثرهم حظا فقد عملت مع استاذ محجوب في ثلاث محطات مهمة، حيث عملت في صحيفة الأيام متدربا حتى أصبحت محررا ثم رئيس قسم الولايات، وفي هذه المحطة تعلمت الكثير من أصول مهنة البحث عن المتاعب الخاصة بالدقة والموضوعية والنزاهة والرصانة والاحترافية، اما المحطة الثانية هي مركز الايام للدراسات الثقافية والتنمية، حيث كنت عضوا بالمكتب التنفيذي ورئيس لجنة الاعلام بالمركز منذ العام ٢٠١٥م وحتى يومنا هذا نفذنا في المركز مع المحجوب العديد من الأنشطة والفعاليات الخاصة بالمجتمع المدني، فقد كانت تدخلات الاستاذ وأفكاره لتنفيذ المناشط ناجحة وذات نتائج سريعة اما المحطة الأخيرة التي رافقت فيها الاستاذ فقد كنت سكرتيره الخاص لترتيب مواعيد اجتماعاته الخاصة بالشأن العام كنت اتلقي كافة الاتصالات لعقد الاجتماعات او المشاورات من خلال عملي كسكرتير خاص للمحجوب عرفت الشخصيات العامة والفاعلين السياسؤين في التنظيمات المهنية والنقابية والنسوية والمزارعين و الحرفيين ولجان المقاومة فقد كان الاستاذ في هذه الاجتماعات التي كانت في الغالب تعقد بمكتب الاستاذ بمركز الايام او منزله او بمكان اخر فقد كان الأستاذ في هذه الاجتماعات مستمعا جيدا وملخص دقيق للافكار التي تطرح بشكل مدهش فقد كان المحجوب عطا بلا حدود برحيله طويت صفحة من صفحات الخبرة والحكمة والسمو الأخلاقي.
برحيله فقد السودان مرجعية يفزع لها في النوازل الاجتماعية، والتجاذبات القبلية التي تحتاج إلى الحكمة والمرونة والخبرة الواسعة بالمجتمعولقد كان مع ما حباه الله به من ذكاء ورؤية ثاقبة للأحداث وتحليلها، وقد وهبه الله القبول والعظمة في قلوب الناس، كما كان يعطي ابتسامته الجميلة الصورة المشرقة الناصعة التي تناسب المفكر المتواضع عموما الحديث عن فقيد السودان والصحافة حديث متشعب، تمتزج فيه مشاعر الإعجاب والاحترام، وأيام الايام الصحيفة والمركز والنشاط في العمل العام وحكايات من الطرفة والنكتة التي يمتاز بها المحجوب وكما يقول الشاعر الراحل محجوب شريف.. راجل نكتة عميق ومهذب رائع جدا وانساني سألتو بدهشه عن الحاصل
مرافقة استاذ محجوب كنوز لا تقدر بثمنن، وفوائد ومعارف تجنى وتقطف يانعة من بستان رجل يصدق فيه قول الشاعر
نزار قباني.. أيها المعلم الكبير كم حزننا كبير وكم جرحنا كبير لكننا نقسم بالله القدير أن نحبس الدموع في الأحداق ونخنق العبرة ونحفظ الميثاق فالحزن مرسوم على القيوم والأشجار.
محطات ومؤلفات المحجوب
تداعيات رحيل المحجوب ، لا تكاد تنتهي فلنعرج قليلا كي نذكر ببعض المحطات المتعلقة بحياة الاستاذ الذي ولد في العام 1928 بالخرطوم، حيث تلقى مراحل دراسته الأولية واللاحقة، ليتخرج في كلية غردون التذكارية الثانوية، التي تحولت لاحقا إلى جامعة الخرطوم.
بدأ الصحفي محمد صالح مسيرته الصحفية في العام 1949، وفي العام 1953 أسس صالح مع كل من الصحفيين بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان صحيفة “الأيام”، التي صدر عددها الأول في الثالث من أكتوبر من العام نفسه، وشغل فيها عددا من المناصب التحريرية. وتولى رئاسة تحرير مجلة الحياة التي صدرت عن دار الأيام (1957) كما ترأس تحرير جريدة (مورنيج نيوز) الإنجليزية الصادرة عن دار الأيام أيضاً وتناوب على رئاسة تحرير الأيام مع زميلين.
كما أصدر صحيفة “سودان تايمز” الصادرة باللغة الإنجليزية، بشراكة مع الكاتب والسياسي من جنوب السودان بونا ملوال. من ثم التحق محمد صالح بالحركة السودانية للتحرر الوطني المختصرة “بحسدتو” آخر العام 1946، حيث مارس من خلالها نشاطه السياسي ضد الإدارة البريطانية، وتحولت “حسدتو” بعد ذلك إلى الجبهة المعادية للاستعمار ومن ثم إلى الحزب الشيوعي السوداني، وفي العام 1947 التحق بكلية الآداب، وفي العام 1948 انتخب نائبا لسكرتير لجنة اتحاد طلبة الكلية الجامعية، وأصبح السكرتير عام 1949، ولقيادته إضرابا طلابيا فصل محجوب ومعه زميلاه الراحلان مصطفى السيد والطاهر عبد الباسط من الكلية، عُرف محمد صالح بمناصبه القيادية في اتحاد الصحفيين العرب واتحاد الصحفيين الأفارقة، ونال جائزة القلم الذهبي من المؤسسة العالمية للصحافة، وجائزة حقوق الإنسان من الاتحاد الأوروبي. يُذكر أن الراحل محمد صالح كان واحدا من الصحفيين المهتمين بقضية جنوب السودان ومسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتطوير مهنة الصحافة. حيث
ألّف محمد صالح عددا من الكتب، أبرزها “أضواء على قضية جنوب السودان”، و”مستقبل الديمقراطية في السودان”، و”الصحافة السودانية في نصف قرن”. كما انتُخب نائبا في البرلمان السوداني في العام 1965، في الحكم الديمقراطي الذي أعقب ثورة أكتوبر السودانية، التي أطاحت بحكم الفريق في الجيش السوداني إبراهيم عبود.
تلقى دورات تدريبية في الصحافة في لندن (1952) والقاهرة (1954) وبيروت (1954) وفي نيويورك (1959/1960) عبر زمالة داج همرشولد التي أنشاتها الأمم المتحدة. كما تولى سكرتارية إتحاد الصحافة السودانية (1951-1955)، إبان تولي أبو الصحافة أحمد يوسف هاشم لرئاسة إتحاد الصحفيين، وظل عضواً بالمكتب التنفيذي للإتحاد حتى تم حله من قبل قادة إنقلاب الجنرال عبود في 17 نوفمبر 1959، وكان رئيس إتحاد الصحفيين بشير محمد سعيد. وكان محجوب عضو لجنة الحريات التي تكونت للدفاع عن الحريات والحقوق مطلع خمسينات القرن العشرين.
وصالح عضو مؤسس في إتحاد الصحفيين العرب وإتحاد الصحفين الأفارقة، شارك في العديد من المؤتمرات العالمية حول الإعلام وحرية التعبير وشارك في دورات إقليمية وعالمية لتدريب شباب الصحفيين. للأستاذ محجوب علاقة بدار الوثائق التي منحها كل أرشيفه من مجلة الفجر التي أسسها عرفات محمد عبد الله، لدار الوثائق، وقد ساهم في تصنيف الصحف والمجلات التي صدرت قبل تأسيس دار الوثائق، وقد منحه مدير دار الوثائق حينها بروفيسور محمد ابراهيم أبو سليم مكتباً بدار الوثائق. وأطلق صالح مبادرة مع أبو سليم لإعادة طباعة مجلة الفجر، التي نجحوا في طباعة عدد محدود منها.ويعتبر الكثيرون محجوب محمد صالح موسوعة في تاريخ السودان، وقد كان من القليلين الذين يحرص المؤرخ د.كتور محمد سعيد القدال على مشاورتهم في مسودات الكتب والرجوع إليه في المعلومات المختلف حولها، خاصة الفترة التي سبقت الإستقلال.عرف رئيس تحرير صحيفة الأيام بالمهنية والحرفية العالية في كتابة الأخبار، حتى في حالات الرقابة الصعبة، ولا أحد يعرف خط أحمر وضعه أستاذ محجوب للعاملين معه.
ختاما..
لقد عاش المحجوب ورحل فقيرا، لا يملك شيئا سوى ثروة كتاباته وفكره واحلامه، قابضا على جمرة الأفكار التي آمن بها، وانحاز اليها، وذاد عنها، وكرس عمره وحياته وطاقاته وحبر قلمه دفاعا عن قيم الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي والتقدم. لقد رحل معلمي بصمت وهدوء وبلا صخب، وهو كغيره من عمالقة الفكر وأصحاب المبدأ، ضحى بروحه وحياته من اجل الناس والوطن والمجتمع والمستقبل الأفضل لكل الكادحين والمقهورين. واجه المحجوب الديكتاتورية والشمولية بشجاعة متناهية لم تهزه السجون والمعتقلات ولم تبهره السلطة فقد رافقت المحجوب نحو ١٩ عاما عرفته خلالها في المكتب والمنزل او خارج السودان ابان المشاورات الخارجية لازمات بلادنا العصية على الحل فقد كان استاذي معلما ملهما ومتسامحا حمل أمانة القلم بإخلاص واعطي للحياة والناس جهده وخبرته وتمتع بمزايا حميدة عديدة جلها الصدق ودماثة الخلق وحسن المعشر وطيبة القلب والتواضع الذي زاده احتراما وتقديرا ومحبة في قلوب الناس كان رمزا للإنسانية حاضرا ونقيا في حياة تلاميذه لذلك حجز لنفسه مكانا واسعا في قلوبنا كما ظل وفيا للصحافة التي احبها كثيرا وملتزما بأصولها َمخلصا لها ضحى بعمره وافني سنين عمره وشبابه من أجلها حتى أصبح عنوانا للصمود والجسارة والوفاء.
اليوم يعز علينا أن ننعي واحدا من ابطالنا ورموزنا بل من خيارهم واصلبهم جسارة قاوم وناضل بشرف وعاني كثيرا من الطغاة اعتقل وشرد لكنه وفيا للصحافة ولنا نحن تلاميذه الذين لم يبخل علينا بمشورة او راي كان ومازال شمسا تهب الضياء ولا تغيب وداعا استاذي وعهدنا لك أن نبقى اوفياء للايام الصحيفة والمركز ، وستظل حاضرا بقوة بيننا، وانت في رقدتك الأبدية يا استاذي أبناء وبنات الايام قد نظموا لرحيلك تأبين تاريخي وطبعوا عدد خاص تداعوا له من كل فج عميق فالجميع شارك فيه معلمي عدا تلميذك العاق حسين سعد الذي حرمته حرب السودان العبثية معلمي المحجوب.. نحن أبناء وبنات الايام ومعنا اصدقاونا فقد جيناك كما قال الشاعر محجوب شريف.. جيناك مرفوعي الرؤس مافينا عرقا فيه سوس بل فينا عرقا من جذور الشعب عشقا لا يداس.